بنفسج

لعبة الحبار: هل يمكننا التحكم فيما يشاهده الأبناء؟

الأربعاء 03 نوفمبر

تخيل إذا أصبح العنف المنظم جزءًا طبيعيًا من الترفيه؟ فلنفترض مثلًا أن دولة ما قررت إعادة إنتاج أحداث رواية 1984 لجورج أورويل كجزء من حدث ترفيهي في مدينة ملاهٍ أو فاعلية عامة، حيث يرتدي الجميع ملابس متشابهة، وتوجد سلطة عسكرية فاشية تملي على الجميع ما يفعلونه، وتراقب كل فرد في منزله، وتملأ السجون بالمعتقلين مسلوبي الإرادة، لا ذنب لهم إلا أن حادوا عن الطريق الذي رُسم لهم. لا يمثل ذلك افتراضًا خياليًا بالكامل بالمحتوى الفني السياسي الذي أصبح من المستحيل فصله عن الترفيه الرأسمالي.

منذ أيام أطلقت السفارة الكورية في أبو ظبي حدثًا ترفيهيًا يعيد إنتاج ألعاب مسلسل لعبة الحبارsquid game، المسلسل الكوري الجنوبي الأكثر مشاهدة على الإطلاق على منصة نتفلكس. ارتدى منظمو الحدث ملابس مماثلة للجنود في المسلسل؛ زيًا موحدًا باللون الوردي وقناعًا يخفي الوجه، بينما تم اختيار مجموعة من المتسابقين بعدما سجل المئات للاشتراك، تنافس هؤلاء في مجموعة ألعاب تشبه تلك التي في المسلسل الظاهرة، لكنها بالطبع لا تنتهي بالقتل.

| للكبار فقط

لعبة الحبار2.jpeg

يستدعي ذلك الحدث التعجب، لأن المسلسل يملك بداخله نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا للرأسمالية، وتحكمها في مصائر الأفراد، ولكن في العالم الواقعي تستخدم الرأسمالية ذاتها أساليب تسويق تجعل من النقد مجرد سلعة، وتمحي الفاصل بين ما هو ملائم للمشاهدة حسب التصنيف العمري، فالجميع من كل الأعمار يشاهدون المسلسل؛ يقتبس الأطفال في المدارس ألعابه في استراحة ما بين الفصول، فهل يختفي مصطلح للكبار فقط لضمان أكبر قدر من المشاهدات والمكاسب المادية للمنصة، دون اعتبار للتبعات الاخلاقية والنفسية على الأطفال والبالغين، أم أن المشاهد يملك اليد العليا في تقرير "مدى تأثير عمل فني ما عليه"؟(1)

منذ زلزل المسلسل العالمي بعنفه المفرط، حطمت مشاهداته أرقامًا قياسية، نسمع يوم بعد يوم الأخبار من نوعية تحذيرات للآباء من ترك أولادهم أمام العمل، أو اندلاع عنف في مدرسة ما نتيجة تأثر الأطفال بالأحداث، لكن لم يعد من الممكن التحكم في ما يشاهده الأطفال في أي عمر، في عصر منفتح تمامًا على الإنترنت ومنصات البث المختلفة، لا يملك الأب أو الأم حق الاستحواذ على جهاز التحكم، الأجهزة في يد كل فرد في الأسرة، كأمر واقع وجزء من حياة شبه افتراضية أشبه بالمستقبل في أفلام الخيال العلمي.

عادة ما يتأثر من يملكون هشاشة مسبقة في داخلهم وميول عنيفة منذ البداية بالأعمال الفنية العنيفة، تدفعهم شخصياتهم المفضلة لتنفيذ رغباتهم المكبوتة، لكن الجديد هنا هو الشريحة العمرية المتأثرة، لأن الأطفال بطبيعتهم يملكون ميول بدائية عنيفة تدفعها للسطح أي دفعة بسيطة

 إذًا فالرقابة لم تعد خيارًا متاحًا، إذ يتعرض الجميع من كل الأعمار لمحتوى ترفيهي يتخطى كونه فنيًا، فهو محتوى ملائم للاتهام في ليلة واحدة دون تفكير في فحواه، ممتع ومسلٍ بحيث يصعب أن تغلق شاشة المنصة قبل أن تكمله، وجزء من تلك المتعة، بالطبع، يكمن في العنف. في عالم لا يملك ضوابط أو قدرة للسيطرة على ما يشاهده الأطفال، حذرت عدة مدارس على مستوى العالم، وخاصة في إنجلترا، من تزايد تأثير المسلسل على الصغار، خاصة أن هنالك أطفال في أعمار لا تتجاوز السادسة امتد هوسهم بالعمل إلى درجة استنساخ ألعابه في أرضية المدارس وعقاب الخاسرين بالضرب والإهانة.

inbound3069821593829466844.webp
وهذا شجع ذلك بعض المدرسين والمدرسات للتواصل مع الأهالي وتحذيرهم من المحتوى المفتوح أمام أطفالهم، ووجوب تحديد خصائص أجهزتهم الإلكترونية للحد من الوصول إلى المسلسل. ليس ذلك هو العمل الفني الأول في العالم الذي يؤدي إلى زيادة العنف على أرض الواقع، عادة ما يتأثر من يملكون هشاشة مسبقة في داخلهم وميول عنيفة منذ البداية بالأعمال الفنية العنيفة، تدفعهم شخصياتهم المفضلة لتنفيذ رغباتهم المكبوتة، لكن الجديد هنا هو الشريحة العمرية المتأثرة، لأن الأطفال بطبيعتهم يملكون ميول بدائية عنيفة تدفعها للسطح أي دفعة بسيطة.(2)


| لماذ نحب العنف؟


"المؤثر هنا ليس فقط كون المشهد مشوق ومثير، المخرج يتحكم في مشاعر الجمهور ويقلبها، لأن الجوكر مجنون لعين، شخصية المذيع الذي يؤديها روبرت دي نيرو ليست شخصية شريرة، هو شخص سيء بالطبع، لكنه لا يستحق الموت، لكن أثناء مشاهدة الجمهور لجوكر ينتابهم شعور بالرغبة في أن يقتل ذلك المذيع، يريدونه أن يمسك بالمسدس ويضعه في عينيه ويفجر رأسه اللعين، ذلك قلب للتوقعات بشكل ضخم، لقد نجحوا في جعل الجمهور يفكر مثل مجنون لعين".(3)

على الرغم من اعتبار كل من السينما والتلفزيون وسائط سمعية بصرية، إلا أنه لا طالما وجدت بينهما فروقات جوهرية، من بينها طبيعة عملية المشاهدة ذاتها، فلكي تشاهد فيلمًا يجب أن تغادر منزلك وتحجز تذكرة وتملك إثباتا أنك في السن المناسبة قانونيًا للمشاهدة، أما الأعمال التلفزيونية، فإنها تأتي إليك داخل منزلك سواء على التلفزيون نفسه أو من خلال المنصات المختلفة، وبالطبع، قلّصت تلك المنصات وبجانبها الوباء الذي ضرب العالم العام الفائت من الفروق الجوهرية بين السينما والتلفزيون، لكن لم تزل المسلسلات تملك جاذبية أكبر وجمهورًا أوسع.

مثيلات العنف التي تملك معان محددة ومؤثرة ومثيرة للتفكير، يمكن أن تغذي تعاطفًا مع الضحايا المعرضين لها، وإعجاب بأفعالهم التي تنم عن الشجاعة والقيم الأخلاقية، وتجعلنا نقدر وقوف الجمال في وجه العنف، لكن في حالة لعبة الحبار نحن منحازون لمرتكبي العنف وليس لمن من المفترض أن يمثلوننا ويكسبون تعاطفنا.


عندما صدر فيلم جوكر للمخرج تود فيليبس في عام 2019 خشي الكثيرون أن تحدث بسببه جرائم عنف، وحلله المخرج الشهير كوينتن تارنتينو بأنه يضع المشاهد في عقل الشخصية الرئيسية العنيفة ويجعله يفكر مثلها، لكنه في النهاية فيلم سينمائي عرض في دور العرض والشخصية الرئيسية التي تعرضت للعنف قابلته بعنف مضاد، مما خلق تعاطفًا عالميًا معها، أما عمل مثل لعبة الحبار، فإنه الأكثر مشاهدة عالميًا في تاريخ منصة نتفلكس، أثار فضولًا جعل متابعته جزءًا رئيسًا من معرفة ما يحدث على خارطة الأعمال التليفزيونية الحالية.

يمثل العنف التليفزيوني التمثيلي متنفسًا بعيدًا عن الواقع، لكن يصلح ذلك لوصف أفلام الحركة أو الألعاب القتالية، لكن ما الذي يجعلنا مشدودين لمشاهدة عنف منظم ممارس من جهة واحدة ضد أفراد مستضعفين؟ في حوار مع مجلة العلوم اليومية تشير دراسة لـ آن بارتش ولويس ميرس أن تمثيلات العنف التي تملك معان محددة ومؤثرة ومثيرة للتفكير، يمكن أن تغذي تعاطفًا مع الضحايا المعرضين لها، وإعجاب بأفعالهم التي تنم عن الشجاعة والقيم الأخلاقية، وتجعلنا نقدر وقوف الجمال في وجه العنف، لكن في حالة لعبة الحبار نحن منحازون لمرتكبي العنف وليس لمن من المفترض أن يمثلوننا ويكسبون تعاطفنا.

| من المتسبب في العنف؟

لعبة الحبار3.jpg

الغريب في الأمر أن الشخصيات الممارسة للعنف المنظم ليست ذات كاريزما أو جاذبية واضحة، على غرار شخصية جوكر في فيلم فارس الظلام the dark knight 2008، أو الفيلم المستقل له جوكر2019 joker، أو العصابة مفرطة العنف في فيلم البرتقالة الآلية clockwork orange. في لعبة الحبار يمارس العنف من هم في الطبقات العليا، رجال بلهاء يشاهدون من مقصوراتهم قليلي الحظ في الحياة يتعرضون للقتل على يد جيش مقنع، يستحيل أن يثير التعاطف، أو أن نضع أنفسنا مكانه.

 لذلك، فإن محاولات إعادة خلق تلك الألعاب تفرغ العمل تمامًا من معناه النقدي، ويصبح وعاءً لكشف الرغبات العنيفة وتنفسيها، بل ويختفي الخط الفاصل بين المعنى والصورة، فما يهم فقط هو الصورة المقتطعة ومدى شهرتها، تتفرغ المشاهد من محتواها وتصبح شذرات تثير الضحك، لكن لا يمثل ذلك رأي جميع من حلل العنف في المسلسل.(4) لا يتشارك الجميع الهلع ذاته، هنالك بعض الدارسين والباحثين الذين يرون أن الهوس في حماية الأطفال من الإعلام والوسائط البصرية غير مبرر ومبالغ في تقدير خطورته، وأن التوجهات الشائعة trends ذات أعمار قصيرة عادة، ولا تؤدي إلى تهديد حقيقي على أرض الواقع.

لعبة الحبار.jpg

 منذ أعوام ظهر توجه بين المراهقين لالتهام قطع من المنظفات الملونة التي تبدو شهية، حذّر الكثيرون من خطورة الأمر واحتمالية تطوير نزعات انتحارية لدى الأطفال والمراهقين، لكن الاتجاه لم يكن إلا ادعاء ابتلاع تلك الخامات للحصول على ردود أفعال سريعة وشهرة سهلة على الإنترنت، لذلك يتوقع الكثيرون تلاشي تلك الهوجة بخفوت شهرة المسلسل، وظهور توجه جديد بعده بأيام من الممكن أن يكون آمن تمامًا أو خطر، لأنه لا توجد وسيلة لمعرفة ما يستحوذ على الإنترنت وثقافة الشباب تحديدًا.(5)

تتزايد الجدالات حول المتسبب في العنف، هل الفن يؤدي إلى ارتكاب الجرائم أنه يعكس الجرائم المرتكبة بالفعل؟ ومع كل حدث جديد تتجدد تلك النقاشات، يصعب التوصل إلى رد قاطع لأن ذلك غير ممكن، فالموضوع أعقد من الأحكام الصارمة أو التصورات السطحية، ربما علينا فقط أن نغذي قيم التعاطف داخلنا لنفصل بين ما هو خيالي وما هو حقيقي، وربما على المنصات الحديثة تطوير سبل الرقابة الأمنية على الأطفال، ففي حالتهم لا يوجد مجال للقول إن الفن مرآه للمجتمع، فالعالم بالنسبة لهم يتمثل في شاشة في حجم اليد، ذلك هو مجتمعهم.


| المصادر

[1] منافسات «لعبة الحبار» في أبوظبي.. المحبة تتجاوز دموية المسلسل الشهير

[2] مدارس تحذر من استنساخ الأطفال لمسلسل نتفليكس الشهيرsquid game

[3] تحليل كوينتن تارنتينو لأحد مشاهد فيلم جوكر

[4] لماذا نحب العنف في الأفلام

[5] لماذا لا يجب أن نهلع بسبب squid game