بنفسج

المرأة الفلسطينية في رواية "أم سعد": أنا هون يمه!

الإثنين 16 يناير

المرأة الفلسطينية المناضلة
المرأة الفلسطينية المناضلة

"إنها سيدة في الأربعين، كما يبدو لي، قوية كما لا يستطيع الصخر، صبورة كما لا يطيق الصبر، تقطع أيام الأسبوع جيئة وذهابًا، تعيش عمرها عشر مرات في التعب والعمل كي تنزع لقمتها النظيفة، ولقم أولادها".

لن أحمّل النص أكثر مما يحتمل، فمحمولات أم سعد كثيرة بالأصل، تقف بكثافة كبيرة عند عتبتها الأولى، في صور المرأة الفلسطينية المناضلة، ولكنني أحاول سبر أغوار اللامرئي فيها، إذ أن ما يتوارى في سطور أم سعد يحتاج اشتغالًا تأمليًا فلسفيًا، حيث أن الظاهر ليس فقط المرئي والواضح والمكشوف أمامنا؛ بل هو إدراك الشيء في حقيقته وذاته، وشعورنا القصدي نحوه، فهو الذي يشكل ذلك الإدراك.

 أم سعد المدرسة والشعب يحضران في المرأة الفلسطينية المناضلة

المرأة الفلسطينية المناضلة
لم يختر كنفاني لبطلة روايته وراويتها اسمًا معينًا لفرد علم، بل أختار أن تكون "أما"..أم سعد، وفي ذلك تلاحم متناغم بين الذات والموضوع؛ فلا مقاومة ولا مقاوم دون زاد وذخيرة. فأين المرأة المرأة الفلسطينية المناضلة في أم سعد.
 
وعن "سعد"؛ فلم يكن غسان كنفاني ليختار هذا الاسم جزافً، فسعد يقابل الشقاء والتعاسة، أما سعد وأمه فهما ليسا كذلك أبدًا، إنهما حياة وولادة ينبتان كعرق دالية.

الإهداء من غسان كنفاني من أم سعد ولها، فأم سعد بطلة الرواية وراويتها؛ وهي كذلك معادل موضوعي لكل الأمهات المكافحات المنافحات اللواتي يقمن بدور البطولة من الخيمة وحتى السلاح، فــ "هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ!"

ولم يختر غسان كنفاني لبطلة روايته وراويتها اسمًا معينًا لفرد علم، بل أختار أن تكون "أما"..أم سعد، وفي ذلك تلاحم متناغم بين الذات والموضوع؛ فلا مقاومة ولا مقاوم دون زاد وذخيرة. أم سعد المدرسة وهي الشعب متلاحمان، متحايثان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر. أم سعد هي الشعب وهي المدرسة، هكذا يصفها غسان كنفاني كما في إهدائه، أم سعد ليس حضور المرأة فقط، وليس اشتغال لها في منحى معين، وهي لا توضع كذلك في قالب ما، ولا يمكن تنميطها بنمط معين، ولا يصح كذلك أن تشغل حيزًا محددًا في تقسيمات العمل الاجتماعي، بل هي المدرسة والشعب معًا في كلانية واحدة، وهي المرأة الفلسطينية المناضلة. 


اقرأ أيضًا: الحليّ في الموروث الفلسطيني: وظائف اجتماعية وحمولات تاريخية


وبالطبع، فإن انتماء غسان كنفاني إلى الواقعية الاشتراكية يساعدنا على سبر أغوار سطوره، لا سيما إذا ذكرنا أن رواية أم سعد بالذات، تتماهى مع شخصية كنفاني وطبيعة توجهاته ومرئياته، وكأنها مرآة تعكس رؤية غسان في الفلسطينية أو ما يريد منها أن تكون عليه. فأم سعد: المدرسة والشعب هي كل فلسطين، بثقافتها، بطبقاتها الاجتماعية، بلاجئيها ومخيماتها..! أم سعد الأم الكادحة التي تقطع الأيام مجيئًا وذهابًا، وتطيق ما لا يطيقه الصبر، تنتمي للطبقة المسحوقة وتعبر عنها:

أجل أم سعد امرأة حقيقية، تستند حقيقتها إلى النساء الفلسطينيات، العاملات، والمرابطات، وكذلك في أمهات الشهداء والأسرى، وما أكثر ما ينطبق على المرأة الفلسطينية المناضلة من صفات وسمات ومسميات: " لقد علمتني أم سعد كثيرًا، وأكاد أقول إن كل حرف جاء في السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا، رغم كل شيء، تنتظران السلاح عشرين سنة".

 المرأة الفلسطينية المناضلة: عرق الداليا الذي ينبت 

المرأة الفلسطينية المناضلة

أم سعد امرأة حقيقية، تستند حقيقتها إلى النساء الفلسطينيات، المرابطات، وكذلك في أمهات الشهداء والأسرى، وما أكثر ما ينطبق على المرأة الفلسطينية المناضلة من صفات وسمات ومسميات.

" لقد علمتني أم سعد كثيرًا، وأكاد أقول إن كل حرف جاء في السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها، اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء.

لم يكن غسان كنفاني ليختار هذا الاسم جزافًا "سعد" يقابل الشقاء والتعاسة، أما سعد وأمه فهما ليسا كذلك أبدًا، إنهما حياة وولادة ينبتان كعرق دالية، يخضّر برعمه وإن كان جافًا: "سأزرعه، وسترى كيف يعطي عنبًا، هل قلت لك أنه لا يحتاج إلى الماء، وإنه يعتصر حبات التراب في عمق الأرض ويشربها". يذكر كنفاني أن أم سعد تلتقط عرق دالية جاف، والرمزية هنا تتنامى مع أحداث الرواية، فهل نمى عرق الدالية الجاف في النهاية؟

 أم سعد: ظاهرة، وظاهرة بذاتها يتطوران معا

المرأة الفلسطينية المناضلة
وأم سعد: البطل والراوي والأحداث، يتطوران معًا في وتائر مختلفة وكلاشيهات متعددة داخل المخيم، وحدود العيش والمقاومة.
 
فأم سعد التي تقطع عمرها جدًا وكدًا، لديها عقل مع سعد ورفاقه، ولديها قلب مع طفليها في المخيم، ويدين في لقمة عيشها، ولسان يفلسف حالة الفلسطيني المقاوم متجليًا في سعد ورفاقه، وفي ابن العم الذي يرقب الأحداث ويصفها، والسلطة متجلية في المختار.

أم سعد غير منقطعة أبدًا: "هذه المرأة تجيء دائمًا، تصعد من قلب الأرض وكأنها ترتقي سلمًا لا نهاية له"، هذا وصف لأم سعد اللامتناهية، كالماء يسري في عمق الأرض، وينشر حوله خضراء الضفاف. ربما أستطيع قراءة أم سعد من خلال علم الظواهر الذي يرى بأنه لا توجد معرفة غير الظواهر المتبدية لنا، ولا توجد ظواهر باطنة خفية، وهي كشف الشيء على نحو ما يكون عليه.

وأم سعد: البطل والراوي والأحداث، يتطوران معًا في وتائر مختلفة تشير إليها المشاهد التي حاول غسان كنفاني إظهارها في كلاشيهات متعددة داخل المخيم، وحدود العيش والمقاومة. فأم سعد التي تقطع عمرها جدًا وكدًا، لديها عقل مع سعد ورفاقه، ولديها قلب مع طفليها في المخيم، ويدين في لقمة عيشها، ولسان يفلسف حالة الفلسطيني المقاوم متجليًا في سعد ورفاقه، وفي ابن العم الذي يرقب الأحداث ويصفها، والسلطة متجلية في المختار.


اقرأ أيضًا: هادية السعافين: تؤرخ للتغريبة والنضال في "الفالوجة" المهجرة


تقول أم سعد في الرواية: "الحبوس أنواع يا ابن العم أنواع! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس، والباص والشارع وعيون الناس..أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس..تتكلم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس.. أما سعد فسيخرج من الحبس ..الحبس كله!"

| النص الحاضر والبسيط

هوسرل.jpg
الفيلسوف الألماني أدموند هوسرل

إن المذهب الذي يدرس الظواهر/ الفينمومينولوجيا أو الظاهراتية ما هي إلا محاولة لوصف الأشياء والظواهر والوعي، أي أنها جهد موجه لوصف الظاهرة كما تتبدى لنا من خلال وعينا بها. كما أن دراسة الظاهراتية لماهية الشيء لا تتوقف عند مرحلة الكشف عن مكونات الظاهرة من خلال تحليلها، وإنما تمتد إلى إدارك العلاقات والارتباطات الماهوية، أي داخل ماهية أو بنية مفردة أو عدة ماهيات، وهذا يتطلب معرفة تحليلية تأليفية[1].

وهنا يمكن أن نشاهد ماهية الفن في العمل الفني، فإذا ما تعالت الذات كما عند "مارتن هايدجر" فإنها تذهب إلى الموضع مكتسبة قيمتها الجمالية من خلال دخولها فية[2]إن الإدراك الحسي وهو فعل وعي، يتميز بأنه يقصد موضوعات حاضرة بذاتها، أو بجسميتها أمام الوعي وهي تظهر له على التتابع من خلال منظورات جانبية، وغاية الإدراك الجمالي هي رؤية القصد أو الدلالة التي يطرحها العمل الفني ذاته[3].

وإذا كان الفن يهب الأشياء معناها من خلال الصورة الفنية التي يمنحها لمعطيات الأشياء، فإن ذلك يكشف لنا الأشياء في بداهتها الأولى مفسحا بعد ذلك وجودنا في المتخفي في الحياة. أما القصدية في الفن والظاهراتية هي قصدية الذات العارفة والتي تحدد فعل الوعي وبنيته وطبيعته، كما يعزز مفهومه الجمالي. عند هوسرل فيلسوف الظاهراتية هناك ثلاث عناصر لوحدة الخبرة القصدية: الهيولي، وهي معطى مادي قبلي، وفعل القصد الذي يهب المعنى، والموضوع القصدي الناتج عن القصد والهيولي، وهذا الموضوع القصدي هو أهم عناصر الخبرة الجمالية.

أنا هون يمه!

المرأة الفلسطينية المناضلة
".. ونظر الرجال إلى رأس الطريق المنحدر كالثعبان من التلة، وهناك رأوا امرأة في ثوبها الريفي الطويل الأسود تنزل قادمة صوبهم.تحمل على رأسها بقجة، وفي يدها رزمة من العروق الخضراء.
 
وبدت لهم عجوزا، في عمر أم سعد وفي قامتها العالية الصلبة، ومن خلال الصمت المخيم كصمت الموت ، كان صليل الحصى تحت قدميها العاريتين يُسمع كأنه همس..."
 

أنظروا إلى مشهد الذروة في الرواية، ولنتعرف على ظاهرة أم سعد وماهيتها الداخلية في ارتباطاتها وعلاقتها بالأحداث والأشخاص، ومدلولات الزمان والمكان:

| "...إن الخيار صعب، قال سعد، وقرروا الانتظار حتى المساء قبل أن يعقدوا العزم على قرار.
وعند الظهر قال سعد لرفاقه: ها قد جاءت أمي!

| ونظر الرجال إلى رأس الطريق المنحدر كالثعبان من التلة، وهناك رأوا امرأة في ثوبها الريفي الطويل الأسود تنزل قادمة صوبهم. تحمل على رأسها بقجة، وفي يدها رزمة من العروق الخضراء. وبدت لهم عجوزًا، في عمر أم سعد وفي قامتها العالية الصلبة، ومن خلال الصمت المخيم كصمت الموت، كان صليل الحصى تحت قدميها العاريتين يسمع كأنه الهمس.

| قال أحد الأربعة: -أمك؟ أمك في المخيم يا أخوت..ضربك الجوع بالعمى!

| قال سعد: أنتم لا تعرفون أمي..إنها تلحق بي دائمًا، وهذه أمي. وصارت المرأة في محاذاة مكمنهم، وباتوا يسمعون حفيف ثوبها الطويل المطرز بالخيوط الحمراء، ونظر إليها سعد، من خلال أشجار العليق التي تسد مكمنه، وفجأة ناداها:

| " -يما يما." -وتوقفت المرأة لحظة، وأدارت بصرها في الحقول الصامتة حولها، وظلوا يراقبونها صامتين فيما أمسك أحدهم بذراع سعد وضغط عليها محذرًا، لحظة، لحظة أخرى، احتارت المرأة، ثم عادت تسير. خطوتان، ثلاث خطوات، وأعاد سعد نداءه:" -يا يما، ردي علي!

| مرة أخرى وقفت المرأة، ونظرت حولها محتارة، وحين لم تر شيئًا أنزلت الصرة عن رأسها ووضعتها على الأرض وأراحت فوقها رزمة العروق الخضراء، وحطت كفيها على خاصرتيها وأنشأت، بعينيها، تنقب في دغول العليق حولها. وقال سعد: " -أنا هون يما!" والتقطت العجوز مصدر الصوت، فتأملته برهة إلا أنها لم تر شيئًا، وأخيرًا انحنت فلمت قضيبًا مشقت عنه أوراقه وخطت نحوهم خطوتين، ثم وقفت ونادت:

| " -لماذا لا تخرج وتريني نفسك؟"، ونظر الرجال نحو سعد الذي تردد برهة، ثم علق رشاشة على كتفه، وسار بهدوء نحو المرأة: " -أنا سعد، يا يما، جوعان!" وسقط القضيب من يد الفلاحة العجوز وهي تحدق إلى الشاب الذي ولده الدغل الشائك ينحدر نحوها بالكاكي وبالرشاش على كتفه، أما رفاقه فقد هيأوا بنادقهم، فيما أخذ سعد يقترب من العجوز.

| وقالت المرأة: "يجوع عدوينك يا ابني..تعال لعند أمك" وأقترب سعد أكثر، كانت خطواته مطمئنة وكان رشاشة ما زال يتأرجح على كتفه من غير اكتراث، وحين صار على بعد خطوة منها فتحت ذراعين واحتضنته: "يا حبيبي..يا ابني..الله يحميك."


اقرأ أيضًا: بعيون روائية: الأم الفلسطينية طراز إنساني بديع


| وقال سعد:" -يا يما، بدنا أكل" وانحنت المرأة فناولته الصرة، وحين أخذها رأى عينيها تدمعان، فقال لها:" -حلفتك بالنبي لا تبكي يا يما"! قالت العجوز:" -معك بقية الأولاد؟ أطعمهم. في المغرب سأمرق من هنا واضع الزوادة على الطريق..الله يحميكم يا أولادي"، وعاد سعد بالزوادة، ولم يلحظ رفاقه أية دهشة في ملامحه.

| أكلوا، وقال أحد رفاقه: "لنغير مكاننا، فقد تعود بالعسكر" إلا أن سعد لم يرد، وبعد قليل قال لهم: -إنها أمي، وقد رأيتم ذلك بأنفسكم، فكيف تعود بالعسكر؟"، وفي المساء جاءت العجوز فوضعت الزوادة، ووضعتها هناك فجر اليوم التالي، وفي كل مرة كان سعد يناديها من وراء الدغل: "يسلموا إيديكي يما"، ويسمعونها تقول:" -الله يحميك يا ابني".

هذه أم سعد التي تلحق دائمًا يقينا من سعد بها، هذه المرأة الفلسطينية المناضلة التي تستقي العزم من فطرتها، وسجيتها، وفعلها التلقائي اتجاه سعد ورفاقه. هي لا تفكر كثيرًا، بل تفعل!


| مصادر ومراجع 

[1] توفيق، سعيد، الخبرة الجمالية، ص52

[2] خوري، أنطوان، مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية، ص ص37

[3] عبدالحميد، شاكر، التفضيل الجمالي، المجلس الوطني للثقافة والفنون، ص120