عندما تصبح قيمة المرأة ونجاحها في مكانها اللائق، وأن تكون هي وليس سواها من دون تسليع أو تنميق كما يروج لها من بعض الأصوات هنا وهناك، حينها يمكننا التحدث عن ضرورة تمكينها اقتصاديًا، وكيف يغدو هذا التمكين خيارًا أفضل لها في فتح مسارات لحياتها المهنية والشخصية، إن توافر الوعي، وتهيأت ظروف مناسبة أمامها كي تبدع وتنتج كما شقيقها الرجل.
الظروف اللائقة لعمل المرأة في فلسطين يشوبها الكثير من المآخذ، ويعترضها كثير من التحديات، للأسف، هي محددات طاردة بمجملها للنساء، ويبدو ذلك جليًا في البيانات والمسوحات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني التي أظهرت تأرجحًا وتراجعًا بين الفنية والأخرى، والتي لم تتجاوز نسبة مشاركتها في سوق العمل في عام 2021 حوالي 17 %، في وقت ارتفعت فيه معدلات التحاقهن بمؤسسات التعليم العالي بنسبة 61% مقارنة بالذكور .
إن التجربة المحلية لتقييم عمل المرأة الفلسطينية أثبتت أن المرأة مساهمة نشطة، ومشاركة أساسية في الحياة الاقتصادية، لكن بشكل عفوي وغير مدروس منذ عقود، قبل أن تأتي موجة المطالبة بـ"التمكين الاقتصادي للمرأة". من منا لا يتذكر كريمة عابود، أول مصورة فوتوغرافية وثقت الحياة الاجتماعية في فلسطين والعالم العربي قبيل النكبة.
ومن منا ينسى هند الحسيني المربية الفاضلة التي شكلت منارة للعمل الإنساني والاجتماعي فيما بعد، وغيرهن من الأسماء اللامعة التي وثقها التاريخ الفلسطيني الحديث، والأسماء المستترة التي لا تزال تخوض غمار التمكين الاقتصادي حتى يومنا هذا . ومع ذلك، فإن تلك المسيرة المضيئة خلال العقود الماضية كانت مواكبة للمرحلة النضالية الوطنية، ومشروع التحرر الاجتماعي الذي قادته المرأة آنذاك، وتحدت من خلاله العادات والتقاليد والحدود التي حاولت تحنيطها، ووضِعت أمامها كمتاريس يجب أن لا يتم تجاوزها .
على عكس الحالة الراهنة، والتي تنضوي على عددٍ من التحديات التي عرت خديعة ما يسمى بـ"التمكين الاقتصادي للمرأة"، قد لا يبدو ذلك مستغربًا أن هناك الكثير من الأصوات والمؤسسات الحقوقية والنسوية التي ترفع اليوم هذا الشعار بشكل مدروس، وتجند أموالًا طائلة من المؤسسات الدولية للحصول فقط على مكاسب شخصية، عبر إقناعهم ببرامج وأجندات وضعتها تلك المؤسسات لصالح تشغيل النساء! والنتيجة تفريغ لمضمون ومحتوى هذا الشعار لصالح الأنانية الذاتية من دون رقيب أو حسيب.
اقرأ أيضًا: القطاع الخاص: كيف لقانون العمل أن يظلم المرأة؟
هناك من يتحدثون على المنابر طويلًا عن النساء، وهناك من يُطلق عليهم/ن مدافعات أو مدافعين عن حقوق النساء، وكأن النساء الأخريات لا يقدن معركتهن الشخصية في الحياة كل يوم، لكنهن يتجنبن الحديث، ويفضلن الصمت أمام تلك المهاترات والمزاودات باسمهن، وللأسف تلك الأصوات العلنية "إلا من رحم ربي" هي ذاتها لا تؤمن بالمرأة ولا تعلي من قيمتها، لكنها تستمر في برنامج "الاسترزاق" الخاص بها وتمضي فيه طويلًا مع الأسف!
هل استمعتم إلى أصوات النساء اللواتي غادرن سوق العمل؛ لأنه لا يعبر عن طموحهن، ولأنهن واجهن خلاله متاعب نفسية وجسدية، ولأن بيئة العمل هذه محكومة بمزاجيات وأيديولوجيات رثة وبالية، وأن ما تتقاضاه المرأة من أجر لا يساوي قطرة عرق واحدة قياسًا بمجهوداتها، ناهيك عن انعدام الأمن الوظيفي، وقانون عمل لا يستجيب لمتطلبات النوع الاجتماعي، ويفتقر في مواده لبنود تكفل الحماية للمرأة، وضمان ظروف عمل مواتية لها .
لا تستمعوا للأصوات التي تتحدث عن حقوق النساء جهارًا، استمعوا فقط لأصوات النساء الخافتة، وفتشوا عنها بين النساء أنفسهن، فهن أيضًا بحاجة للثقة وبحاجة للبوح، وهن الأصدق في سرد تفاصيل الواقع.
هناك نساء فُصلن من العمل لاقتراب موعد الولادة، مع أن القانون يمنحها الحق في إجازة الولادة والأمومة، وهناك مؤسسات ترفض فلسفة الدور الإنجابي للمرأة بحجة أن المؤسسة أو الشركة ليست "شؤون اجتماعية"، وهنالك أصوات مكلومة تلوذ بالصمت تحت وطأة العوز ولقمة العيش وأكلاف الحياة.
لا تستمعوا للأصوات التي تتحدث عن حقوق النساء جهارًا، استمعوا فقط لأصوات النساء الخافتة، وفتشوا عنها بين النساء أنفسهن، فهن أيضًا بحاجة للثقة وبحاجة للبوح، وهن الأصدق في سرد تفاصيل الواقع وأكثر التماسًا به، وأكثر قدرة في التأثير، ورواية تجربتهن أمام الملأ.
إذا بقي الواقع بصورته القائمة كما هي، وظلت الأصوات تنادي وتلوح بفزاعة "تمكين النساء"، وبالخطاب القائم فإن الأجيال النسوية القادمة، ستذهب إلى خيار الزواج، ليس لأنه الخيار الأمثل، إنما فقط من أجل أن لا تزج في غياهب فرصة عمل لا تليق، وإذا كان ذو حظ عظيم، ولديها الإمكانية لتأسيس مشروعها الخاص، فهذا خيار آخر، ولكن قلما يتوفر.
لذلك، لا بد أن يسعى صانعو القرار للعمل على تغيير سياسات وتشريعات تشغيل النساء، وفرض رقابة على أن تكون كافة بيئات العمل لائقة للنساء، حيث أن البرامج التي وضعتها النقابات والاتحادات والمؤسسات الحقوقية، والمدافعة عن النساء باختلافها لن تؤدي إلى التغيير المرجو، إذا لم يكن هناك إيمان ويقين ووعي لدى المرأة بضرورة أن تشارك في عملية التغيير، وأن يقودها صوتها إلى مسارات أفضل .
إذا بقي الواقع بصورته القائمة كما هي، وظلت الأصوات تنادي وتلوح بفزاعة "تمكين النساء"، وبالخطاب القائم فإن الأجيال النسوية القادمة، ستذهب إلى خيار الزواج، ليس لأنه الخيار الأمثل، إنما فقط من أجل أن لا تزج في غياهب فرصة عمل لا تليق، وإذا كانت ذات حظ عظيم، ولديها الإمكانية لتأسيس مشروعها الخاص، فهذا خيار آخر، ولكن قلما يتوفر. الشاب الذي يبحث اليوم عن زوجة موظفة، قد يواجه مستقبلًا صدمة انسحابها من المشاركة الاقتصادية، وقد يضطر لأن يشمر عن ساعديه ليعمل وينتج أكثر، لأن المرأة تبدلت اختياراتها بعد أن خاضت سوق العمل، وخبرت فيه الكثير من القصص التي لم تنشر بعد .