بنفسج

السيدة هاجر ومدارج الصبر: عن سعي لم ينقطع

الخميس 07 يوليو

كان المشهدُ يبدو خاويًا، مقفرًا، مترامي الأطراف، منقطع الأوصالِ، يبعث على الوحشة والوحدة والألم والتيه، ويشغل القلب ببكاء رضيع، وخواء فؤادٍ وأثقال نفسٍ وأحمال همّ، وأمّ تختلي بوادٍ لا أُنس فيه ولا أهل، تحتضنُ الأرضَ وترقبُ ساعة الانبلاج. لكنّ السيدة هاجر زوجة الخليل –عليه السلام- كانت تدرك أنّ هذا المستقرّ لا بدّ، وأن ينبع عن سببٍ وجيه ولو كان المغزى غيرُ بيّن؛ فاكتفت بسؤاله: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لن يضيّعنا.

هُنا تتجلّى مراتب اليقين، وتتبدّى مدارج الصبر شاقّةً، متصاعدةً، ذات حملٍ ثقيل، وأثرٍ عسير، اجتازتها هذه المرأة العظيمة واحدًا تلو الآخر في سعيٍ طويلٍ لم ينقطع إلى يومنا هذا، يحملُ نبضاتِ الاعتبارِ، والأنسِ وتتبع المسالك؛ تتذكرها كلّ من تقطعت بها السّبل، وضاقت عليها الأرض، وأظلمت في وجهها أنوار الطريق، فتقول كما قالت هاجر يومًا: إذن لن يضيّعنا.

وقصة السيّدة هاجر ذات مناراتٍ كثيرة، موسومة بالاسم الذي انعكس على المسمّى وكانت الرّحلة إثره طويلة، والهجرةُ لازمة انتقلت عبرها مع نبي الله إبراهيم من فلسطين، إلى أرض مكة؛ لا شيءَ من الزّاد سوى تمرٌ وماءٌ وقلبٌ عظيم، لا يساوره شكّ في أنّ أوقات الفاقات أعيادُ المحبّين، تتالى بعدها بشائر الفرج والسكينة مصحوبةً بعطاء إلهي لا ينضب.

| منارةُ اليقين: ألا تزل قدمٌ بعد ثبوتها

اليقينُ مددٌ ربانيّ وتثبيت إلهيّ، أيّد الله به السيّدة هاجر فلم تزد عن قولها ذاك قولا، ولم تزلّ القدم بعد ثبوتها في المستقرّ، وأتت الكلماتُ بصوتٍ مطمئن، ونفس هادئ، وقلبٍ يعرف ربّه تمام المعرفة، ويثق في رحماته، وينتظر مقدمها، لأنّها قادمة لا محالة. وهو كما عرّفه السريّ "سكونك عند جولان الموارد في صدرك، لتيقنك أنّ حركتك فيها لا تنفعك، ولا تردّ عنك مقضيًّا"، وهو ما أبدته هذه السيّدة الملهمة.

نظرت حولها، فلم تجد من علامات الحياة شيئًا: صحراء قفارٌ، وماء قليل، وطفلٌ رضيعٌ ووادٌ مهجور وزوج يضعها في وسط كلّ هذا ثمّ يقفل راجعًا، لكنّ قلبها كان ساكنًا، آمنًا، مطمئنًا، يجاورُ حبّ المولى في غياهب المجرياتِ، ويلقى أقداره بحفاوةٍ وترحيب، هل الأمرُ من عنده؟ "ألا فأهلًا بما قضاه الله، فهو لن يضيّعنا".

واليقين مطلب سامٍ من مطالب الروح، لا يمكن للمرء أن يبلغه بسهولة، والنفس أغوارٌ سحيقة، وأنفاق مظلمة، يتطلب ارتقاؤها عن الأوضار الأرضية جهدًا عظيمًا، وتدريبًا متواصلًا. قيل لعجوزٍ: هذا الفخر الرّازي الذي يحفظ ألف دليل على وجود الله، فقالت: لو لم يكن بقلبه ألف شكّ ما احتاج إلى ألف دليل، وبين يقين العجوز ويقين أمّ إسماعيل خيط رقيقٌ لا يكادُ يبين، وفي هذا المُرادِ الرّاقي فليتنافس المتنافسون وليذكروا امرأة عظيمة اسمها هاجر، رمتها نوائب الدّهر فما ضعفت وما استكانت.

| منارة الصّبر: فناءٌ في البلوى، بلا ظهور شكوى

وكان من السيّدة هاجر أن قامت تبحث عن الماء لتسقي لهثها وتروي رضيعها، وكان السّبيل نحوه شاقٌّ طويلٌ، يحتاج كما قال السّلف إلى "ثبات القلب عند موارد الاضطراب"، وإلى قوة إقدام تستمرّ في البحث رغم العوارض، وتأبى الاستسلام لعلمها بأنّ الإحجام يأسٌ من روحِ الله.

نفذ الزّادُ في فلاةٍ لا عمران فيها ولا سكن، وجفّ حليب أمّ إسماعيل، فارتفع صوته صارخًا يريدُها أن ترحم جوعه وضلوعه، ويريد الله أن تتجرّد أمته ممّا في يديها إلى ما في يديه، ليرقى بها في مقام العبودية والتوكّل والنظر إلى الله، فتلقي عصاها كما ألقى موسى عصاه، وخلع نعليه، وعجّل خطاه ليرضي ربه. لكنّ الظفرَ يحتاج إلى الصّبر، والصبرُ، كما قال عنه العارفون: "فناءٌ في البلوى بلا ظهور شكوى".

 وكان من السيّدة هاجر أن قامت تبحث عن الماء لتسقي لهثها وتروي رضيعها، وكان السّبيل نحوه شاقٌّ طويلٌ، يحتاج كما قال السّلف إلى "ثبات القلب عند موارد الاضطراب"، وإلى قوة إقدام تستمرّ في البحث رغم العوارض، وتأبى الاستسلام لعلمها بأنّ الإحجام يأسٌ من روحِ الله. ولأنّ النعيم والبؤس متقاربان، يعقبان ويوشكان زوالًا، جاء نبعُ زمزم فيّاضًا، مستفيضًا، لا يحبس برّه عن أي لاهثٍ إلى يومِ القيامة.

| منارةُ السّعي: بين الصّفا والمروة خلود الذكرى

والمرءُ مهما تتالت عليه الخيباتُ، وقيّدته المصائب، وتواترت عليه آثارُ السّقوط، لا بدّ وأن ينظر بعيدًا إلى أفقِ السيّدة هاجر، وهي مجهدةً تعدو بين الجبلين، لكن تعبها لم يكن ليثنيها عن المضيّ قدمًا، ويذكر شمسًا ستسطع مهما طال غيابها، وسينجلي اللّيل إثرها، وستطير العصافير.

افتقدت أمّ إسماعيل الماء فبدأت رحلتها في البحث عنه. وكانت تصعد جبلي الصّفا والمروة تباعًا قاطعةً الطريق بينهما سبع مرّات، مرفقةً صبرها ويقينها بضرورات السّعي والأخذ بالأسباب. وكان من ثمار هذا السّعي وحسناته أن أصبح سببًا في خلود الذكرى وتخليد صاحبتها، وارتبط بشعيرة عظيمة لا جزاء لها إن كانت مبرورة إلّا الجنة.

ونحن إذ نزور البيت والحصن ونطوف حول الكعبة ونقف فوق الجبل، لن يكتمل مراد عبادتنا إلا بتتّبع أثر خطوات امرأة عظيمة الشأن، ضعيفة الحيلة آنذاك، تحثّ السّير نحو الماء، ولا تدري بأنّ خطاها ستستمرّ إلى يوم القيامة: عن سعي السيّدة هاجر أحدثكم، عن حجّ لن ينقطع، وأثرٍ لن ينقضي.

والمرءُ مهما تتالت عليه الخيباتُ، وقيّدته المصائب، وتواترت عليه آثارُ السّقوط، لا بدّ وأن ينظر بعيدًا إلى أفقِ السيّدة هاجر، وهي مجهدةً تعدو بين الجبلين، لكن تعبها لم يكن ليثنيها عن المضيّ قدمًا، ويذكر شمسًا ستسطع مهما طال غيابها، وسينجلي اللّيل إثرها، وستطير العصافير.

| منارة العمران: في البدء كانت هاجر

استقرّت أمّ إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، فكانت ترنيمة البدايات، ومنطلق الحكاية، ومهوى السّائرين. وكانت مكّة قبلها خاويةً، لا سكن فيها ولا عمران ولا تعريفَ ولا ملأ، كأنما الوجود فيها أو العدم سيّان، فأراد الله أن يجعل هاجر بداية العمارة، الإنسانُ الأوّل على الأرض الطاهرة، السّكنُ الأولُ فوق التربة الطيبة، الرّفيقُ الأوّل في البلاد المقدّسة.

وجاءت العمارة كذلك استجابةً لنداء الخليل إبراهيم، عليه السّلام، الذي رفع يديه مستغيثًا: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". فتتابعت على إثر النداء جموع من قومٍ طيبين، ذوي رحمة ولين يهوون السّكن في مكّة فتصير بيتًا محرّما، وملاذًا عامرًا. في البدء كانت هاجر، وستستمرّ حتى المنتهى؛ والحقيقةُ أنّ كل امرأةٍ هاجر وإنّما الاختلافُ في طريقة السّير!