في المسلسل الشهير التغريبة الفلسطينية؛ ليست مجرد شخوص تلك التي رسمت صورة النكبة وما قبلها وصوّرت الإرهاصات التي بعدها، فأرّخت للنكبة وأحداثها وتفاصيلها وآلامها على مدار واحد وثلاثين حلقة تتحامل على المشاهد، فلا تترك له خيارًا سوى التذكّر. تأسره في قفص الحقائق بأنّ النكبة مستمرة وأن العودة حقٌّ، وتحرس ذاكرة الأرض المغتصبة في وجدان كلّ عربي فتكتب سيرة من لا سيرة له في بطون الكتب، وإنّما هي جزء من عمل حكائيٍّ دراميّ بامتيازٍ، يضمّ مجموعة من قصصٍ بسيطة المبنى، عميقة المعنى تتداخل فيما بينها مسفرةً عن أطروحة من النقائض التي تفتش في أسئلة كثيرة وتحاول الإجابة عنها تاركة المشاهد بين الدهشة والترقّب، والألم، والكثير من الانغماس.
ففي مسلسل كهذا وصفه كاتبه الدكتور وليد سيف" بذاكرة التاريخ"، وأبدع مخرجه "حاتم علي" في تصوير كل إطار من أطره المؤلمة المتنوعة منتجًا لقطات عصيّة على النسيان، ستكتفي بالمشاهدة لأنّ التعبير لن يسعك، وستذرف الدموع فور سماعك لإيقاع البداية الذي سيلاحقك أياما عديدة، كأنّ الصوت جزء من القضية، أو أنّ كلمات إبراهيم طوقان: "صامت لو تكلما لفظ النار والدما... قل لمن عاب صمته... خلق الحزم أبكما". وهي تختصر كلّ الشتات وكلّ الشجن وكلّ الفداء، قطعت قول كلّ خطيب، ثمّ ستذرف الدمع بعدها كثيرًا؛ لأنّ كلّ مشهد مرثاةٌ، وكلّ صورة مأساةٌ، وكلّ كلمة مقاومة.
فضلًا عن تحليل بعض الظواهر والأفكار المهمة التي عالجها المسلسل بطريقة مبسّطة الطرح نخبوية الخلفية، يفهمها العاميّ المشاهد، ويدرسها المتعمّق، فإنّنا سنؤسس قبل ذلك لقراءة مجملة من خلال بطاقات تعريفية للكاريزما التي نسجها الدكتور وليد سيف لشخصيات العمل، وجسّدها حاتم علي –رحمه الله- وفق رؤية إبداعية كسرت الحاجز بين ما هو واقعيّ وما هو تمثيليّ، وجعلت لكلّ واحد منهم جملة من الصفات والأفكار وحتى العبارات المقتبسة التي يستشهدُ بها ويُحال إليها، فيقالَ كما وصف أبو صالح، أو كما قال أبو أحمد، أو كما روى عليّ، كلّ هذا وهؤلاء لا وجود لهم؛ بيد أنّ التغريبة خلدتهم.
والبداية في هذه القراءة ستقتفي أثر المسلسل في كسره للعادة، واستهلاله المشهد الأول بخاتمة الحكاية، بحادثة موت القايد أبو صالح، حتّى يشدّ انتباه المشاهد ويتغلغل عميقًا في مشاعره منذ الوهلة الأولى، ويكسب شيئًا من المركزية والاحتفاء لشخصية "أبو صالح"، ثمّ ينقله بسلاسة إلى الماضي، قبل عشرين سنة خلت من خلال "فلاش باك" يصور هذا الراوي الذي يرثي أخاه في البدء وهو في الكُتّاب صغيرٌ، بريءٌ، لم يشتدّ عوده بعد، ولم يتمكن من زمام اللغة، ويرافق المرثيّ في عمله بحقول الزيتون، ورفضه لظلم الإنجليز.
القايد أبو صالح: في التغريبة الفلسطينية؟
| المُعرّف: أحمد صالح الشيخ يونس السبعاوي.
| الوظيفة: فلاح، فقائد فصيل ثمّ صاحب دكان بالمخيم.
| البورتريه المعنوي: رجل شهم ذو أنفة، شجاعٌ جدًّا، مثقف على مستواه التعليمي البسيط، متفتح على تمسكه بالعادات والتقاليد، لا يقبل الخسارة بسهولة، سريع القلق.
| الرّمز الإيحائيّ: إطار الصورة الذي جمعه بالمجاهدين الشهداء، الذين قضوا جميعًا أيام الثورة وتركوه وحيدًا، يستشعر وجودهم في كلّ لحظةٍ، ويحدّثهم ويحدّث عنهم.
| مواطن الشتات: القرية، ثمّ حيفا، فمخيم اللاجئين بطولكرم.
| مجتزأٌ من أقواله: "الميت لربه. الله بيعرف رجاله، واللي كبره مترين معروفه، مش زي لي كبره الوطن كله. واللي مات وبإيده البارودة ورجليه في الأرض، الأرض كلها أخذته ببطنها." [2]
هذا هو أبو صالح إذن؛ الرجل الذي ينتابك فور رؤيته مزيج من مشاعر الرهبة والاحترام والفخر والشفقة في الآن ذاته، في اللحظة ذاتها. الرجل الذي علمنا معنى البطولة، القائد الشهم الذي وصفه عليّ في فاتحة المسلسل فقال: "رحل الرجل الكبير وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة. أخي أحمد "أبو صالح" لم تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولا يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره. وقريبًا، يموت آخر الشهود المجهولين، آخر الرواة المنسيين، أولئك الذين عرفوه أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح؛ فمن يحمل عبء الذاكرة؟ ومن يكتب سيرة من لا سيرة له في بطون الكتب؟ أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس، وخلفوا آثارًا عميقة تدل على غيرهم ولكن لا تدل عليهم".
"إحنا كانت قيمتنا بسلاحنا، راح السلاح وراحت الأرض، وإحنا انتسينا".
لقد كان أبيًّا، حادًّا، حريصًا على مصلحة الأسرة والقرية، يحمل همّ البلاد على ظهره، على قدر عالٍ من المسؤولية، متمسكٌّ بفكرة التعليم أي تمسّك، ويحرص على تعليم شقيقه علي بكلّ ما أوتي من قدرة. يرفض ظلم المستعمر، ويحمّس الشباب لخوض الثورة، ويأبى أن يستجدي أحدًا؛ فيكسب رزقه من عرق جبينه مهما كانت الظروف، ولو على كبره. وهو الرجل الذي نراه فنتمثّل فيه بتلك الكاريزما ركيزة أساسية نقتفي أثرها حينما تتقطّع السبل، وهو العمود الأساسي الذي لا تقوم قائمة للمسلسل دونه.
ولا ريب بأنّ انتهاء الحرب وخمود مشاعل الثورة، قد ترك أثره السلبي على صورة أبي صالح الذي يعتبر البندقية مُسمّاه الذي يعرف به. هو ذاته يقول في إحدى حواراته مع القاضي أبو أكرم: "إحنا كانت قيمتنا بسلاحنا، راح السلاح وراحت الأرض، وإحنا انتسينا". [3] لكنّ تقبل ذلك الوضع لم يكن سهلًا عليه، وحمولته كانت أشدّ وأثقل على نفسٍ تعتبرُ الهزيمة انكسارًا، وهذا ما ظهر جليًّا في ردود فعله الغاضبة مع عامل الأمم المتحدة الذي أهانه ورفض معاينة بطاقته، وعودته إلى المخيّم بعد حواره مع ضابط المحتلّ حزينًا منكسر الخاطر لأنّ الصهاينة لم يسجنوه؛ فذاك دليل على أنّه لم يعد يشكّل خطرًا عليهم.
اقرأ أيضًا: فلسطين كما صورتها التغريبة: هل غيرتنا النكبة؟
ثمّ انفعاله الكبير بعد العدوان على مصر واستفحال اليهود على اللاجئين الذين أرادوا مغادرة المخيم. كان بجموح من يتشبث بنواجذ الأمل الفاتر ويرفض أن تمتدّ النكبة لتغدو نكبتين يشدّ على طرف كلّ واحد منهم، صارخًا مستنكرًا: "وقفوا، وين رايحين... الله أكبر، ولك يا جماعة بدنا نهاجر مرتين؟". [4] هذا الرّجل يريد الاستقرار، لقد تعب من المشي الطويل المستمرّ، لقد تعب من الهجران.
ظلّ أبو صالح رمزًا للعزّة في كل الظروف، عزّة الأسرة، وعزّة الثورة، وعزّة الفلسطينيّ الأبيّ. وهو الذي ينظر في إحدى المرات إلى زوجته مشفقًا فيقول: "شو لي رمى بنت حيفا هالرمية؟" لكنّها تجيبُ بصوت الزوجةِ الفخورة بزوجها، وصدى المشاهد العربيّ المأخوذ بشخصيته: "إلي معك، ما بينهان يا بو صالح". [5] وهو الذي رفضت والدته أن تتفرّق عنه وتغادر منزله إلى منزل علي، فقالت له: "كلكو ولادي، ومهجة قلبي، بس أنا ما بيكبرني (يدفنني) إلا أبو صالح". كان سيدفنها، لكنّها من دفنته. يا لتناقض الزمن! يا لسهام القدر!
التغريبة الفلسطينية: الطبيبُ أكرم صديق الفلاحين
| المُعرّف: أكرم السويدي.
| الوظيفة: طبيب مثقف مساند للثورة.
| البورتريه المعنوي: رجل هادئ السمت، ثوريُّ الأفكار، ثائر على الفروقات الطبقية البالية، صديق الفلاحين.
| الرّمز الإيحائيّ: الحطة الفلسطينية التي ارتداها، هو المثقف المحكوم بالطربوش معلنًا مساندته لثورة الريف الفلسطينيّ معتبرًا أنّ الحطّة هي علامة التحضّر والمقاومة.
| مواطن الشتات: حيفا.
| مجتزأٌ من أقواله: "كان الطربوش إشارة التمدن الكبرى، والحطة مربوطة بالتخلف الريفي والجهل. وهلأ انقلب الحال واتغيرت الموازين وصارت الحطة رمز الثورة والشرف".
"كان الطربوش إشارة التمدن الكبرى، والحطة مربوطة بالتخلف الريفي والجهل. وهلأ انقلب الحال واتغيرت الموازين وصارت الحطة رمز الثورة والشرف".
كان مرور الدكتور أكرم السويدي في المسلسل مختصرًا، عابرًا، مقتصرًا على بضع حلقاتٍ انتهى وجوده فيها باستشهاده. لكنّ هذا الحضور يحمل دلالات حتمت علينا دراسته بشكلٍ مستقلّ واعتباره شخصية محورية. فوسط كلّ المآسي التي كان يعاني منها الفلسطينيون بسبب الفقر والاحتلال الانجليزي وسوء الأوضاع السياسية والاجتماعية؛ فقد خلقت الفروقات الطبقية بين أهل المدينة والريف بدورها فجوة واسعة أثّرت على التفاعل الموحّد للشعب مع المقاومة ووحدة البلاد، وفرقت بين الناس على أسس التعلّم، والمنصب الوظيفيّ، وحتى اللهجات؛ فصار المدنيُّ صاحب الطربوش أولى ببعض الحقوق، والمكانة الراقية والتقدير المجتمعيّ من الفلاح الذي يضع حطّة، ويخضب يديه بتراب الأرض.
تذكرون الحوار الذي جرى بين حسن الصغير وأخيه علي؟ كان الأول شديد التذمّر والغضب من أهل قريته الذين لا يولون عائلته اعتبارًا، فلجأ بحلمه تلقائيًّا إلى السّكن في المدينة للتخلّص من هذه العقلية، وقال لأخيه: "فيوم من الأيام، لازم نطلع من هالكرية ونبني بيت فالمدينة، نصير كلنا أفندية، نلبس بنطلونات وبدلات وبعدين نجي نزور وتصير الناس كلها تطلع علينا".
الدكتور أكرم لم يقع في الفخّ، وخرق هذه الفروقات بين المدنيّ والريفيّ، وكان على وعي تام بأنّ هذه الطبقية المجتمعية لن تزيد البلد سوى شقاقًا، وستخدم احتلالًا يتّخذ من مبدأ "فرّق تسدّ" منهجًا له، وأنّ الثورة انبعثت من رحم الفلاحين: هؤلاء الذين يُعيّرون من قبل المدنيّ بلباسهم، وثقافتهم وأصالتهم. ولذلك، عندما استغربت زوجته هدى من كون أحمد صالح الشيخ يونس السبعاوي قائد فصيل، قائلةً بشيء من الازدراء: "هذا؟! "أجابها: "ماله هذا؟ فلاح؟ ما هما كلهم فلاحين، القادة لي أكبر منه فلاحين... أحنا مرحناش للثورة برجلينا، هاي الثورة نفسها إجت لعندنا". [6]
مساندة الدكتور أكرم للثورة لم تكن محض كلام، بل وُطّدت بأفعال حقيقية تجلت من خلال ارتدائه للحطة، واستقباله الجريح أحمد بحفاوة وحذر، ورفضه أخذ أجر المعاينة من العمّال المضربين، حتّى استشهد تاركًا وراءه سمعةً طيبةً يصفها صديقه فيقول: "الشاب الطيب النظيف الصادق النقي"، وبنتًا مثقفة فطنةً ستكبر لتصبح سلمى.
علي وحسن: ثنائيُّ التضادِ والتلاحم في التغريبة الفلسطينية
| المُعرّف: علي صالح الشيخ يونس السبعاوي - حسن صالح الشيخ يونس السبعاوي
| الوظيفة: معلم، كاتبٌ ثمّ دكتور – فلّاح ثمّ فدائيٌّ شهيد.
| البورتريه المعنوي: رجل قلمٍ وكتاب، مثقّف، هادئ، كثير التفكير، كثيرُ الصّمت، واقعيّ أحيانًا وحالمٌ أحيانًا أخرى كثيرة – رجلٌ فطنٌ، صادقٌ، حادّ الطباع، متمرّدٌ على العادات والتقاليد.
| الرّمز الإيحائيّ: صورة حسن الشهيد، بين الثيابِ وعلى جدار البيت – بندقية العبد التي استمرّ من خلالها كفاح حسن وذكراه.
| مواطن الشتات: القرية، مدرسة المدينة بحيفا، القدس، مخيم اللاجئين بطولكرم، بيروت، أمريكا فبيروت من جديد. - القريةُ ثمّ قبرٌ معروف الصاحب مجهول المكان.
| مجتزأٌ من أقواله: "كان لا بدّ أن يمر وقت ما قبل أن نعي حجم الكارثة وحدودها، قبل أن تتضح ملامحها ونتمثلها في نفوسنا وواقعنا المشهود، قبل أن نصوغ لها مصطلح النكبة، نكبة فلسطين". - "أكبر جريمة ترتكبها بحق نفسك، وبحق مبادئك، وبحق الناس، حتى الناس لي هسا حاربوك، أنّك تنسحب من المعركة أو تتردّد. وإذا تردّدت اعتبر نفسك انهزمت، وإذا انهزمت رايح يكون من الصعب عليك أنك ترجع تنتصر مرة تانية".
"أكبر جريمة ترتكبها بحق نفسك، وبحق مبادئك، وبحق الناس، حتى الناس لي هسا حاربوك، أنّك تنسحب من المعركة أو تتردّد. وإذا تردّدت اعتبر نفسك انهزمت، وإذا انهزمت رايح يكون من الصعب عليك أنك ترجع تنتصر مرة تانية".
لا يذكر عليٌّ إلّا بذكر حسن، ولا يُعرّف الأول إلا بالثاني. هذا الثنائيُّ الجميل المتضادُّ الذي ترافق في محطّات كثيرة، واستمرّ حضوره حتى بعد استشهاد حسن، حضور المتناقضات التي تدرك المعنى وتبرزه. وبدأ هذا الترافق منذ اللحظات الأولى بالمسلسل في أيام الصبا، فوق سطح البيت، وفي حقل الزيتون، والحاكورة، وفي كتّاب القرية، يتحدّثان من خلالها عن كلّ شيء، يناقشان هموم الأسرة، وينسجان خيوط الحلم.
واستمرّ هذا التوافق والانجذاب الكبير بين الأخوين حتى بعد مغادرة عليّ إلى مدرسة المدينة ثمّ إلى القدس؛ فعلى الرغم من تباعد مجالات اهتمامهما وأوساطهما إذا صحّ التعبير، وعلى الرغم من حسرة عدم التعلم التي كانت تكبر في نفس حسن يوما بعد يوم، إلّا أنّ توطّد العلاقة ظلّ على حاله، يبثّ كل واحد منهما همومه للآخر في المكان المعتاد تحت شجرة الزيتون.
ويؤسّسان لمقاربة فكرية بين ما يعتقده الفلاح، وما يعتنقه المثقف من أفكار، ليخلص عليّ في إحدى نقاشاته مع أخيه إلى أنّ "الحياه بدها أكثر من علم الكتب" تحتاج إلى خبرة، وكفاح، والكثير من التجارب؛ فعندما هجم الصهاينة مثلًا على القرية في نكبة الـ 48، استطاع حسن أن يحمل بندقية العبد وينضمّ إلى أخيه، لكن عليّ لم يكن بوسعه سوى لملمة بعض الكتب قبل الهروب من البيت، ثمّ التخلي عن ذلك لاحقًا لأنّ النكبة أوسع من وريقات الكتب.
وقد جاء التمرّد الكبير الذي اتّصف به حسن خصوصًا في قصته مع جميلة، كإشارة رفض أراد المخرج والكاتب إبداءها إزاء العادات والتقاليد الظالمة، وهو ما لم يقدر عليه عليّ؛ ذلك المثقف الذي وجب أن يكون أكثر مرونة في التعامل مع أمر كهذا بحكم تعليمه وسعة إطلاعه؛ لأنّ الشجاعة والمواجهة بدورها لا تُؤتى من علم الكتب.
"كان لا بدّ أن يمر وقت ما قبل أن نعي حجم الكارثة وحدودها، قبل أن تتضح ملامحها ونتمثلها في نفوسنا وواقعنا المشهود، قبل أن نصوغ لها مصطلح النكبة، نكبة فلسطين". -
بعد أحداث النكبة، تمّ تغييب شخصية حسن بطريقة مفاجئة، ونقل الكاميرا من الحيز الضيق المتعلّق بأحداث آل الشيخ يونس السبعاوي إلى مشهد المئات من المهجّرين واللاجئين، بعد الطرد والاستيلاء على القرى من أجل إبراز القضية وتسليط الضوء عليها بشكل أكثر تركيزًا وشمولية، لكنّ ذلك لم يمنع من استحضارِ ذكراه في كل آن بين أفراد العائلة بشيء من الحسرة والألم واليأس. وفي النهاية، لم يظهر حسن، لكنّ البندقية رُدّت إلى صاحبها، فهل تستمرّ الذكرى يا ترى؟ يصيغ حاتم علي مشاهد خاطفة لصور حسن بين الملابس وفي الجدران، ويجري ذكره بشكل عابر في مختلف الحلقات لتوحي بأنّ الذكرى لا تزال هاهنا. يقول علي بصوت الراوي الدافئ الذي رافقنا منذ بداية المسلسل: "انتهت الحربُ إذن، فأين أخي حسن؟".
اقرأ أيضًا: أم أحمد وخضرا وأخريات: نساء في النكبة المستمرة
أمّا ذروة القلق والصراع في حياة عليّ، فقد كانت هي الأخرى وسط مخيم اللاجئين، حين راوده الكثير من الإحباط وحاوطته الشكوك والتساؤلات من كلّ الجوانب، حول الوضع والنكبة ومفهوم اللاجئ والهوية وحسن، وأنّ المخيم عرقلة لأيّ مسارٍ أراد أن ينسجه وتهديم لبعض الأحلام. وكان على وشك الاستسلام لقدره والبقاء في مخيم اللاجئين، لكنّ الأسرة التي لطالما عولت عليه، وتشرّفت به لم تكن لتقبل أمرًا كهذا، وكان الحلُّ الوحيد هو ثورته على وضعه وخروجه من هناك. وانفعال حسن الشديد وهو يصرخ قائلًا له: "أصلح من هالكرف" دليلٌ على أنّ كل الأسرة كانت تعلق آمالها عليه في تحسين وضعها الماديّ والاجتماعي.
في مسلسل التغريبة أظهر أن النكبة خلقت واقعًا جديدًا وفروقاتٍ أكبر، وبات اللاجئُ غريبًا في وطنه يُفرّق بينه وبين غير اللاجئ على أسس طبقية، وكان ذلك دافعًا أكبر لخروج عليّ من المخيم. يقول له صديقه المحامي سامي: "مهما كانت فرصك فالحياة رح تظل محدودة بالمخيم. إذا كان غير اللاجئ بيحتاج لشهادة وحدة مشان يحقق مركز اجتماعي محترم ومستوى حياة مناسب، اللاجئ بيحتاج لثلاث شهادات عالية لحتى يوصل لنفس الهدف" [7] وهي ذي خلاصة حياة الواقعين في براثن اللجوء والشتات.
| المراجع
[1] الحلقة 19 الدقيقة 9.00
[2] الحلقة 21 الدقيق 34.30
[3] الحلقة 20 الدقيقة 19.10
[4] الحلقة 30 الدقيقة 32.40
[5] الحلقة 19 الدقيقة 20.55
[6] الحلقة 09 الدقيقة 6.08
[7] الحلقة 21 الدقيقة 10.56