بنفسج

السيدة حسنية أبو عون: خليفة الغازي على الأهل والبنون

الأحد 11 سبتمبر

"خلص صرتي بدك تدخلي بالستين.. كبرتي هسه وأكيد صار غيابه عادي واتعودتي عليه.. هو الثاني الله يسامحه يقعد ويهدى ما ظل من العمر قد إلى الراح". حادّة هذه الكلمات، غريبة وغير مفهومة، وكأن الإنسان يملك مشاعره. ثقيلة كالجبال لا تُحتمل ولا تُطاق، مع أنها صيغت تحت مظلة المواساة، إلا أنها باتت فوق الهم همًا. هكذا يربت البعض على كتفي أم أيسر فزاد حملها حملًا. تسمعه أم أيسر، تهز رأسها، تبتسم في مواساة لنفسها أن هذا عهدنا مع الله، والعهد مع الله لا ينقض، وإن بكت العين كثيرًا، أو أنّ القلب بصمت، يبقى الرضا هو المنتهى. 

السيدة حسنية أبو عون زوجة الأسير نزيه أبو عون، كانت في الـ ٢٠ من عمرها عندما تزوجت. كانت الحياة مستقرة؛ بيت وزوج وأطفال، لا شيء يعكر صفو الحياة وهدوءها، حتى جاء حقد أسود عكّر الحياة وسلب السعادة والأمان. هكذا هي حياة الأسرى وعائلاتهم، انتظار وزيارات ومنع ومحاكم، فصبر وجلد. إنهم يعلمون أنها تضحية، وهم راضون بذلك. يعلمون أن هذا جهاد في سبيل الله والوطن، وهم كذلك راضون بذلك. ولعل البعض يتساءل! أنّا لهم الصبر؟ كيف يطيقون للبعد سبيلًا؟

| عن 17 مرة اعتقال

السيدة حسنية أبو عون زوجة الأسير نزيه أبو عون، كانت في الـ ٢٠ من عمرها عندما تزوجت. حتى سلب الاحتلال استقرارهم. عدد مرات اعتقال نزيه أبو عون بلغت ١٧ مرة؛ الأولى استمرت ٤ سنوات، خرج بعدها لمدة عام ونصف العام تقريبًا. وعاد ليُحكم سنة وشهرين، ثم خرج لفترة قصيرة بضعة شهور وعاد لمدة ٦ سنوات.
 
تقول: "أذكر في هذا الاعتقال الأول أني كنت حاملًا بابنتي وئام، وضعت طفلتي وزوجي بالسجن. جاء المهنئين، كان أهلي وأهله والأصدقاء حولي. كنت بصحة وعافية، وابنتي كذلك، ولكني أردته هو لا سواه في ذلك الموقف.
 

ألا إنه حكم الله، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، وليس ذلك على الله بعزيز! هذه هي القاعدة والبقية فيها شواذ. هل تعلمون عن الأحكام التي يصدرها العدو؟ عشرات السنوات، عشرين، وبعضها مدى الحياة. المحكومون فيها لا يقنطون من رحمة الله، بل إن أمره نافذ. اليقين يزين قلوبهم، فينعكس الأمر على زوجاتهم وأبنائهم، فالحمدلله على ما قسم! مرت خمس سنوات أنجبت خلالها ثلاثة أطفال. أثناء حملها في الطفل الرابع، وكان المولود أنثى أسمتها وئام. اعتُقل أبو أيسر للمرة الأولى، لتتوالى بعدها الاعتقالات دون توقف.

عدد مرات اعتقال نزيه أبو عون بلغت ١٧ مرة؛ الأولى استمرت ٤ سنوات، خرج بعدها لمدة عام ونصف العام تقريبًا. وعاد ليُحكم سنة وشهرين، ثم خرج لفترة قصيرة بضعة شهور وعاد لمدة ٦ سنوات. تقول السيدة أم أيسر وقد بدا عليها القهر رغم تعاقب السنوات عن هذا الحدث وكأنه اليوم: "أذكر في هذا الاعتقال الأول أني كنت حاملًا بابنتي وئام، وضعت طفلتي وزوجي في السجن. جاء المهنؤون، كان أهلي وأهله والأصدقاء حولي. كنت بصحة وعافية، وابنتي كذلك، ولكني أردته هو لا سواه في ذلك الموقف. بحثت عنه في كل الوجوه ولم أجده، وبقيت أجامل الناس بابتسامة زائفة وقلبي يعتصر حزنًا وشوقًا. ماذا لو كان هنا وأذّن في أذنها؟ ماذا لو استقبل المهنئين بنفسه؟ كيف كانت ستكون كلمة الحمد لله على سلامتك من فمه! ستبرئ كل الجروح، ولكن هذا قدر الله".


اقرأ أيضًا: نورا ومحمد.. 48 مؤبدًا بميثاقِ حُبٍّ وانتظار


كانت هذه المرة الأولى التي تضع السيدة أم أيسر طفلًا وزوجها في الأسر، ولكنها لم تكن الأخيرة، فبعد ذلك أصبح الاعتقال ديدنًا وضريبة لم يُعف منها حتى اليوم، يخرج بضع شهور ويعود إلى السجن، إما لأحكام بين ثلاث سنوات وأربع، أو تحت الحكم الإداري، الحكم الأقسى والأبشع الذي ما زال يعاني منه حتى اليوم بين الفترة والأخرى. ويعني الاعتقال الإداري، الاعتقال احترازيًا لمدة غير معروفة، لعدم وجود ملف ولائحة اتهام معلنة؛ ويتذرع الاحتلال بالقول بأنه ملف سري، فيحكم الأسير مدة وتجدد وفق هواهم، مما يجعل الأسير وأهله يعيشون حالة من التوتر والألم الذي يتجدد مع تجدد كل حكم.

| زوجة لأسير ... امرأة بدوري الأم والأب 

كل علوم الدنيا لا تكفي أم أيسر لتتمكن من إجابة أبنائها على أسئلة كبيرة تدور في ذهنهم الصغير، يطرقها الشوق لوالدهم في كل دقيقة، وفي كل يوم "أين بابا؟ متى سيعود؟ لماذا ذهب؟". تقول السيدة حسنية: "كنت أودّ أن أقول لهم إنه في العمل، أو في سفر وسيعود بعد أيام، ذهب ليجلب لكم الهدايا، ولكن الأمر ليس كذلك، بل يجب أن أقول إنه في السجن، وبين أن تشرحي حب والدهم لهم وسبب غيابه والظلم الواقع عليه تنفتح معها أسئلة لا تنتهي، وإن كانت الإجابة مقنعة، فإنها لا تطفئ شوقهم لوالدهم وحاجتهم له".

"ربما أحتاج لأيام لأسرد هذا الشق، مواقف لا تنتهي وألم لا يُوصف..". هكذا تقول السيدة حسنية عن تربية الأبناء في غياب والدهم، حيث أنجبت 7 من الأبناء، 4 بنات وثلاثة ذكور. وتقول إنها أنجبت نصف أبنائها ووالدهم في الأسر، وكانت تقضي معظم فترة الحمل خلال اعتقال زوجها، فما إن تحمل جنينها حتى يُعتقل أبو أيسر، فتنجب وتربي في السنوات الأولى وحيدة. وتضيف في هذا الصدد: "لا يمكن وصف صعوبة المهمة، أن أكون الأم والأب معًا، كيف سيجتمع الحب والعاطفة مع الحزم والانضباط؟ تربيهم صغارًا دون والدهم.يخرج من السجن فترة قصيرة ونبدأ مرحلة الاعتياد على وجوده، وما أن يعتادوا حتى يعود من جديد إلى السجن، فنعيش مرارة جديدة ليعتادوا على غيابه".

________-6.png

كل علوم الدنيا لا تكفي أم أيسر لتتمكن من إجابة أبنائها على أسئلة كبيرة تدور في ذهنهم الصغير، يطرقها الشوق لوالدهم في كل دقيقة، في اجتماعات الأسرة، قبل النوم، عند الاستيقاظ، في الأعياد والمناسبات،  في اليوم الأول للمدرسة. وفي كل يوم "أين بابا؟ متى سيعود؟ لماذا ذهب؟". تقول السيدة حسنية: "كنت أودّ أن أقول لهم إنه في العمل، أو في سفر وسيعود بعد أيام، ذهب ليجلب لكم الهدايا، ولكن الأمر ليس كذلك للأسف، بل يجب أن أقول إنه في السجن، وبين أن تشرحي حب والدهم لهم وسبب غيابه والظلم الواقع عليه تنفتح معها أسئلة لا تنتهي، وإن كانت الإجابة مقنعة، فإنها لا تطفئ شوقهم لوالدهم وحاجتهم له".

تضيف: "تنتهي مرحلة  الأسئلة، فتصبح لديهم خلفية كلها فخر بوالدهم، يكبروا ليعلموا أين ولماذا وكيف يغيب، ولكن بعد ذلك تأتي مرحلة المراهقة التي تتطلب وجود الأب، خصوصًا للذكور. كنت في قلق دائم عليهم خوفًا أن يتعرضوا للخطر، خوفًا أن لا أكون على قدر المسؤولية".

| بيت عزاء في الأسر!

received_1240800953442445.jpeg
الأسير نزيه أبو عون مع أحفاده

بين الأفراح والأتراح، المرض والعافية، مواقف كثيرة تحدثت عنها واستذكرتها السيدة أم أيسر تقول: "كل لحظة في غياب أبو أيسر كانت تحمل في طياتها صعوبة وامتحانًا. كل يوم يحوي حدثًا يؤلمنا على غيابه في الفرح والترح، إذ فقد كل أحبابه وهو في السجن، فقد أمه وأباه، فقد أقرباءه وأصدقاءه ولم يكن قادرًا على أداء واجب العزاء ولو مرة واحدة، أو حتى أن يحظى بفرصة وداع أخير لهم".

وتستذكر معنا أم أيسر والدموع حرا في عينيها يوم وفاة والد زوجها فتقول: "لم يكن هناك أي وسيلة اتصال لنا معه، كيوم وفاة والدته، ولكن الابن سرّ أبيه، وقلبه دليله رغم بعد المسافة وانقطاع الاتصال وتكالب الظلمات، فأثناء صلاة الفجر رأى في سجوده أن والده متوفي، ظل قلبه يتقلب في قلق وخوف، شعر بأن مكروهًا أصاب أباه. وبالفعل، جاءه الخبر بعد ذلك، بعد تناقله من أسير لأسير. فتح له الأسرى بيت عزاء كما فعلوا له سابقًا مع أمه، ولكن لا شيء يضاهي أن يكون في بيته ومع أهله في تلك اللحظات".

________-4.png

هكذا هو حال الأسرى في سجون الاحتلال، لفراق أحبابهم عند موتهم غصة وألم مضاعف، فأم أيسر تعيش غصتين؛ واحدة على فراق من مات، والأخرى على قهر زوجها، لأنها تعلم كم يعز عليه أن يودع أحبابه دون حتى أن يراهم للمرة الأخيرة، فيتقلب قلبها على الميت مرة، وعلى زوجها شطر قلبها مرة أخرى.

| الأب الغائب!

يمسك الأب بيد زوج ابنته عند عقد القرآن ليزوج ابنته، شعور من الرهبة يعتري كل فتاة في هذا اليوم، ولكن ما أن تنظر من خلف الباب وتسمع ترتيل والدها "إني أوصيك بها خيرًا"، حتى تطمئن، ولكن الاحتلال دائمًا كان يزيد الموقف صعوبة ويحوله نكدًا على بنات أبو أيسر، سواء يوم عقد القران، أو خروجها إلى بيت زوجها يوم الزفاف، تستذكر أولًا أم أيسر فرحته بابنته وئام فتقول: "كان فرحًا جدًا أنه سيحضر خطبتها، وزّع دعوات الفرح بنفسه، ليعتقله الاحتلال في اليوم التالي يوم خطبتها، وكذلك الحال مع ابنته آية".
 
تتابع أم أيسر: "ليست البنات وحسب، بل هكذا الحال مع الذكور، فأبو أيسر لم يحضر زفاف أيسر ابننا الأكبر ولا زفاف إسلام. إسلام الذي شاطر والده الطريق والسجن تأجل زفافه لعامين ويزيد، فإما أن يكون هو في السجن أو والده

والأفراح كذلك لا تكون اعتيادية في حياة الأسرى وأهلهم؛ فلم يعش الزوجان فرحة بشكل كامل دون بعد وغياب فتقول: "في الأفراح، كان غيابه قاتلًا أيضًا. كان الفرح دائمًا يمضي مع غصة. لم يشاركنا فرح ابنه الذي تأجل لعامين حتى يجتمع الابن والأب سويًا، فقد كان الاحتلال يتناوب على اعتقالهم حتى تم الفرح بدونه.

يمسك الأب بيد زوج ابنته عند عقد القرآن ليزوج ابنته، شعور من الرهبة يعتري كل فتاة في هذا اليوم، ولكن ما أن تنظر من خلف الباب وتسمع ترتيل والدها "إني أوصيك بها خيرًا"، حتى تطمئن، ولكن الاحتلال دائمًا كان يزيد الموقف صعوبة ويحوله نكدًا على بنات عائلة أبوعون، سواء يوم عقد القران، أو خروجها إلى بيت زوجها يوم الزفاف، تستذكر أولًا أم أيسر فرحته بابنته وئام فتقول: "كان فرحًا جدًا أنه سيحضر خطبتها، وزّع دعوات الفرح بنفسه، ليعتقله الاحتلال في اليوم التالي يوم خطبتها، وكذلك الحال مع ابنته آية".

4-4.jpg

أما عن ابنته الثالثة وسام فتقول: "أما وسام، فظلت تنتظر والدها وتؤجل زفافها لأشهر حتى يكون موجودًا، ولكن كانوا يجددون له الإداري في كل مرة حتى أقنعناها بوضع موعد للزفاف، ويوم زفافها قرروا أن يفرجوا عنه بعد أيام. جاءني هذا الخبر وأنا بجانبها في صالون التجميل، وأذكر يومها أني كتمت الأمر في نفسي، لأني لو أخبرت ابنتي كانت ستنهار. وبالفعل، عندما علمت انهارت. خرج بعدها بأيام ارتمت في حضنه كالطفلة الصغيرة تبكي بحرقة، وتقول له لماذا تأخرت عليّ يا أبي؟ وهو حاول مداراة دموعه بالطبطبة عليها وتحويل الموقف إلى ضحك ليخفف عنها وعن نفسه".

تتابع أم أيسر: "ليست البنات وحسب، بل هكذا الحال مع الذكور، فزوجي لم يحضر زفاف أيسر ابننا الأكبر ولا زفاف إسلام. إسلام الذي شاطر والده الطريق والسجن تأجل زفافه لعامين ويزيد، فإما أن يكون هو في السجن أو والده، وحال الأمر دون اجتماعهما سوية، حتى في مرة حددوا موعد الزفاف، وليلة العرس اعتُقل العريس إسلام. أضف إلى ذلك أنه حرم من مشاركة أبنائه النجاحات والالتحاق بالجامعات والتخرج، معظمها غاب عنها الأب ليظل الفرح ناقصًا دومًا.

| في الأسر...يتعاقب الأب والابن

__________-4.png

صمتت هنا ضيفتنا لبرهة حتى شعرت أنها قد تنهي الحوار لأن الكلام انتهى، الكلمات سفيهة، الحروف قليلة، ولا شيء سوى الدموع، فذلك شطر القلب والآخر ابن القلب كله، كما وصفت. تقول: "لا أستطيع المقارنة، لقد ظل جرح غيابه ينزف لسنوات، وحتى اليوم أكويه بملح العين والصبر، ولكن عندما اعتقلوا إسلام ابني الثاني للمرة الأولى شعرت... لا أدري... لا يمكنني وصف الأمر". ربما هذا كان شعور أم موسى عندما أخذه اليم أمامها، فأصبح فؤادها فارغًا، ولكن لولا ربط الله عليه ما كانت هي اليوم تلك المربية الفاضلة والزوجة المخلصة والأم القوية التي سندت أبناءها وكانت لهم أمًا وأبًا.

لم يحضر الشيخ نزيه أبو عون معظم ولادات أبنائه وأحفاده الذين بلغوا ١٦ حفيدًا. لم يحضر حضورهم للدنيا. تردف: "ذقت حسرة غيابه عنا في ولادتي لأبنائنا، وذاق بناتي وأبنائي حسرة غياب والدهم عن ميلاد أبنائهم. ولكنه بمجرد أن يحضر ينتهي الغياب، وكأنه لم يغب، يلتف أبناؤه حوله بشوق، ويرتمي الأحفاد في حضنه يلعبون معه وكأنه ليس بغريب عنهم.

__________-3.png

في وصف هذا الشيخ المجاهد تقول زوجته: " خفيف الظل، مزوح، يحاول أن يجعل من أي موقف مهما كان ثقيلًا خفيفًا بابتسامته وضحكته. كان يقول مَن مثلي ؟الناس تزف مرة واحدة، أما أنا زفوني ١٧ مرة، كناية عن مرات استقباله بعد خروجه من السجن ليخفف عنا حدة ثقل السجون والغياب".

وتضيف: "كان صبورًا جدًا لا يظهر عليه انكسار أو تعب، لا يتذمر ولا يعاتب أحدًا على تقصير. ويقول دائمًا عن السجون هذا في سبيل الله والحمد له". "نحن فخورون صبورون بما نحن عليه حتى وإن تجاوز الستين، وبت أخاف على صحته أكثر، إلا أن ما كتبه علينا الله اصطفاء، نحمده عليه، راجين أن يكون لنا درجات يوم القيامة يوم لا تعب ولا نصب".