عندما كنتُ صغيرةً، تعلّمت في كتابِ القراءة عن باسمٍ، وأمه وأبيه. هل تتذكرون "باسم"؟ "هذا بابا" و"هذه ماما"؟ تعلّمت حينها أن لكلِّ شخصٍ وُجد على وجه هذه الأرض أمٌ وأب، فأنا أمتلك أمًا وأبًا، وأصدقائي كذلك، لم أتخيل يومًا حياتي دونهما. إلى أن جاء الوقت الذي كبرت فيه، وعرفت أن لكلٍّ منّا وقتٌ محدد سيترك فيه والديه، أو قد يتركه أحدهما!
سواء كان الأمر قضاءً وقدرًا، أو لسببٍ محدد، شهدتُ – بعدما أصبحتُ فتاتًا راشدة - حالات كثيرة عاش فيها العديد من الأفراد من مختلف الأعمار، يتيم الأم، أو يتيم أب، وأحيانًا يتيمًا بشكلٍ تام، بلا أم وبلا أب. ولكن مقالي هذا موجّه نحو الأسر المكوّنة من أم فقط، سيمسُّ بشكلٍ خاص الأم العازبة. "الأم العازبة" المسؤولة عن تربية أطفالها لوحدها والمعروفة مجتمعيًا باسم "سينغل موذر (Single Mother)". هنا في الجزء الأول من هذا المقال سنكشف تفاصيل حياة الـ Single Mother بغض النظر عن موقف الطرف الآخر الذي هو فعليًا "الأب". سنغوص قليلًا في أعماق مصطلح "الأم العازبة". وأسباب وجود أم عازبة. وفي الجزء الثاني سنتحدث عن العوامل المؤثرة في حياة الأم العازبة وتأثير وجود الأبناء مع طرف واحد دون الآخر والتحديات التي تواجه الأم العازبة، وعن آلية دعمها في وجه تحديات الحياة التي تواجهها.
| ماذا نعني بالأم العازبة أو الـ Single Mother؟
يبدأ المعنى فعليًا من مصطلح "Single Parent" أو "الوالد الوحيد"؛ وهو الشخص الذي يعيش مع طفل – أو عدة أطفال – هم أطفاله، وليس لديه أحد يشاركه الاهتمام بهم. هذا المصطلح يشمل أحد الطرفين، إما الأم أو الأب، لذا قد يكون Single Father، أو Single Mother، ولكن تقريرنا هنا، كما أسلفنا الذكر، عن "السينغل موذر" على وجه الخصوص، بغض النظر عن وضع الأب بالنسبة لها، بغض النظر عن السبب الذي جعلها كذلك.
نشير إلى كل أنثى في العالم، تُعيل طفلًا أو أكثر لوحدها بمفردها، أنها أم عازبة. كل أنثى تقوم بدور الأب والأم معًا لوحدها، هي أم عزباء، وتشمل أسباب كونها "أمًا" عازبة الكثير من الخيارات، وأولها هو خيارها أن تصبح عازبة لأسباب ربما زوجية، وأبسطها قد يكون وفاة زوجها! لنناقش هذا الأمر باستفاضة أكبر قليلًا.
لأخبركم، متى نقول عن أم أنها عازبة؟ لنقُل إنّ المصطلح بحدِّ ذاته، أي " Single Mother"، قد انطلق من أمريكا تقريبًا، وانتشر بشكل شائع لدرجة أن حوالي 80% من العائلات ذات العائل الوحيد في البلد، تحت رعاية أمهات عازبات، ويعيش ما يقارب ثلث هذه النسبة في فقرٍ شديد. وبينما كانت الأمومة العازبة تقتصرُ إلى حدٍّ كبير على النساء الأقليات والفقيرات، أصبحت اليوم مُصطلحًا بحدّ ذاته ذا صدىً عالمي، بسبب انتشاره السريع أولًا، وبسبب آثاره السلبية ثانيًا!
| ما هي أسباب وجود أم عازبة؟
في المجتمع الغربي، تمثل العلاقات غير الشرعية أو العلاقات خارج إطار الزواج، النسبة الأكبر في إنتاج أمهات عازبات، ولكن لن نأخذ كثيرًا بهذا السبب في مجتمعنا العربي، الذي يحدد قيمًا وأُطُرًا مجتمعية، تحدّ من هذه الظاهرة، على الرغم من عدم انعدامها كليًا، ولكنها ولو وُجدت، فلا تمرّ مرور الكرام، كونها تخالف الشرع، والعادات الشرقية.
إذًا تتفاوت الأسباب الأكثر احتمالًا لوجود أمهات عازبات، بين الطلاق بعد إنجاب الأطفال والذي يُعتبر الحلّ السّلمي لعدم استمرار الزواج، والانفصال عن الزوج بعد الزواج والإنجاب، وموت الزوج، وسنناقش حتى فكرة وجود الزوج ماديًا وجسديًا فقط، وغيابه نفسيًا، والذي يترك أمًا عازبة، رغم وجود الزوج معها، أي أمًا عازبة في قضايا تربية الأطفال.
اقرأ أيضًا: أمهات عصر "السوشال ميديا": وهم النجاحات العابرة للسياق
ننوّه هنا أن الانفصال يختلف عن الطلاق، الانفصال لا يعني الطلاق، ولكن يبتعد كِلا الزّوجين عاطفيًا وتصبح العلاقة سطحية موجودة بسبب وجود الأطفال فقط. أما الطلاق، فيجري بشكلٍ شرعي تأخذ فيه المرأة حقوقها ويأخذ كلّ من الطرفين حقوقه حسب قانون كل بلد. وفي النهاية، يمكننا استنتاج أنه لا يمكن الحُكم بشكل قطعي عما إذا كانت الأم العازبة قد اختارت طريقها أم اختارها هو! فاختلفت الأسباب والنتيجة واحدة.
خارج إطار قانون كل بلد في إدارة العلاقات الزوجية بعد الانفصال أو الطلاق وما إلى هنالك، يتوقف دور الأب بعد الانفصال عن الأم بأي طريقة كانت، على اعتباراته الشخصية، فإذا أراد لم يقطع علاقته مع أطفاله ويتعامل معهم بحنيّة الأبوّة ويشارك في مصروفهم مع الأم، وإذا لم يريد، يقطع علاقته بالأم والأولاد! وأقول - برأيي - أنه في كِلتا الحالتين، وحتى لو شارك الأب في مصروف الأطفال وتواصل معهم في فترات متقطعة، فالنسبة الأكبر في تربية الأطفال وإدارة أمورهم من جميع النواحي، تقع على عاتق الأم التي أصبحت "عازبة"!
| وفاة الزوج: فرضٌ ربّاني صعب
غالًبًا ما تكون وفاة الزوج مأساة ومصابٌ يصعبُ تقبّله، خاصةً الزوج الصالح، ولكن في النهاية، سيكون أمرًا واقعًا، وستسمر الحياة، وستكمل الأم العازبة حياتها وتربّي أطفالها وتعتني بهم، وتقوم بدور الأب والأم معًا في محاولة منها لتعويض النقص.
سأحكي قصّة قصيرة من مخزون ذكرياتي في مرحلة دراستي الثانوية، بطلتها كانت مدرّستي في الصف، كانت أمًا لـ 4 أطفال، أحد هؤلاء صديقتي التي كنت وهي في نفس المرحلة العمرية.
الحنان الذي قدمته هذه الأم، كان كفيلًا بدعم أطفالها نفسيًا ومعنويًا وماديًا أيضًا، كنت أرى في هذه الصديقة نضجًا جميلًا، ومنطقًا مقبولًا. كانت تشتاق لوالدها على الرغم من فقدانها له في عمرٍ صغير! "كانت تملك فُرَصًا كثيرة للزواج، ولكنها فضّلتنا على حياتها الشخصية"، هذا ما قالته لنا صديقتي – ابنتها – ذات مرة.
اقرأ أيضًا: تحديات مزدوجة: قراءة في حياة أم عازبة
على الرغم من أن الزيجات بعد وفاة الزوج ومع وجود أطفال، تملك الفرصة في أن تكون ناجحة أحيانًا، ولكن البعض يخاف المستقبل، يخاف على أطفاله من الطرف الجديد الدخيل، ويفضّل الاهتمام بحياة أطفاله على حسابِ حياته، وهكذا فعلت آنستي.
| الطلاق
الكثير من الزيجات اليوم تنتهي بالطلاق إذا لم يتفق الزوجان، فعلى العكس مما كان يحدث سابقًا، أصبحت النساء اليوم أكثر وعيًا بأهمية حياتها، وعُمرها، وحقوقها، لذا وبدلًا من تحمّل الحياة الزوجية غير المقبولة من أجل الأطفال، أصبحت المرأة تقوّي نفسها ماديًا ومعنويًا، وتختار الطلاق، وتربية أبنائها بمفردها.
غالبًا ما يكون قرار الطلاق باتفاق الزوجين، ولكن لا يمكننا التعميم، ففي بعض الحالات، يختار الزوج الطلاق مع أو من دون التزامه بالمسؤولية المالية تجاه أطفاله، وفي جميع الأحوال، بينما يرى الجميع أن الطلاق حل مدمّر للأطفال، أراه حلًا منطقيًا ولازمًا كي لا يدمّر الطرفان أطفالهما كليًا، قد يدخل الأطفال في عُقَد نفسية جراء علاقة الوالدين السيئة، وهنا من الأفضل أن تحكم المحكمة الجهة التي ستبقى مسؤولة عن تربية الأطفال.
| سفر الزوج
في حالة سفر الزوج، فإن الأم هي عازبة فعليًا، ومتزوجة مجتمعيًا وقانونيًا. يفرض سفر الزوج، ونقصد السفر المتكرر المطول، أي بداعي العمل والذي يغيب فيه الزوج كثيرًا ولا يمكنه أن يطلّ على عائلته سوى فترات قصيرة، يفرض ذلك على الأم أن تُصبح المسؤول الأول والأخير عن أطفالها، تربيتهم، والاهتمام بشؤونهم، مراعاتهم في مراحل حياتهم من الطفولة إلى المراهقة، الاهتمام بمشاكلهم، وغيرها الكثير من الأمور. يقوم الأب هنا بدور الصراف الآلي فقط، يبعث للمرأة بالنقود، ويطلب منها الاهتمام بشؤون البيت كلها.
تُصبح الأم هنا عازبة جسديًا ومعنويًا ونفسيًا، ويقع ثِقل ومسؤولية إدارة البيت على كاهلها. تختلف الحلول هنا بحسب الظرف الذي يحكم الأسرة، ولكن ما نحاول تقديمه هنا هو أن غياب الزوج بسبب رباني أو قانوني، ليس السبب الوحيد الذي يجعل الأم تشعر بالوحدة في الحياة الأسرية. حتى أن هناك سبب يجعلها عازبة وهي في نفس المنزل مع زوجها، وسنتقدم بذكره.
| غياب الدور الأبوي للأب من أهم عوامل إنتاج أم عازبة
عندما تقوم الأم بدور التربية والتعليم والتثقيف وحل مشاكل الأطفال في المدرسة ومع الجيران، وتتحمّل مراحل تطوّر نموّهم ومراهقتهم، وتساعدهم على الاختيار بين الأمر الصحيح والخاطئ في كل شيء، لوحدها، فهنا يُقال إن هذه الأم، عازبة!
عندما يكون الأب موجودًا في الأسرة بدون أي دور أبوي يُذكر، هنا نحكم على الأم أنها عازبة. قد يكون الزوج سليمًا، ومنتجًا، وله دوره كرجل في المجتمع، ولكنه لا يعرف عن أولاده سوى أسمائهم وأنهم بخير (أي على قيد الحياة)، فهنا نعتبر أن دور الأب في التربية، مُلغى. عندما تقوم الأم بدور التربية والتعليم والتثقيف وحل مشاكل الأطفال في المدرسة ومع الجيران، وتتحمّل مراحل تطوّر نموّهم ومراهقتهم، وتساعدهم على الاختيار بين الأمر الصحيح والخاطئ في كل شيء، لوحدها، فهنا يُقال إن هذه الأم، عازبة!
نعم، عمليًا هي متزوجة من إنسان يسد رغباتها ورغباته الزوجية، ويصرف على المنزل والأولاد، فقط، ولكن الحياة الزوجية لا يمكن تأطيرها بالعلاقة الجنسية والمصروف، يجب أن يهتم الطرفان بشكل تشاركي، بكل ما يتعلق بحياتهما سويًا بعد الزواج.