الثَّاني من يونيو، السَّاعة تشيرُ إلى السَّابعة صباحًا، والعيونُ تتجهُ نحو التَّقويم المُعلَّق على الحائط، التقطتْ آية هاتفَها: "صباحُ الخير لشهيديَ الصَّامت، لقد مضى عامٌ يا شريكي على آخرٍ وعدٍ فيما بيننا، برُدت قهوتُنا، ومازال هاتفي ينتظرُ رسالتك: آية، أنا في الطريقِ إليكِ. ربَّما طال الطريق يا أسامة، لكن لا بأس إن كانت نهايتٌه نورَ لُقياكَ". كتبتْ آية كلماتِها، ونهضتْ بعزيمة -كعادتِها- فبعدِ عامٍ من رحيلِ حبيبِها أسامة، تغيَّرتْ أروقةُ السَّعي، وأصبحتْ الحياة في قلبِها معراجًا لأجل الوصول، فبعدَ هذه العتبات سيكون أسامة عريسًا ينتظر حور عينه آية، تُزفُّ إليه بروحٍ وريحان.
| "حبيبة الشهيد"
سيِّدةُ هذه القصِّة الصَّحافية الغزِّية آية أبو طاقية "34 عامًا" زوجة الشهيد المهندس أسامة جنينة، وأمّ لثلاثة أطفال. بدأتْ حكايتُها بعد أن انتهت حرب 2021، فالكلُّ قد جمعَ ما بقيَ من شتاتِ نفسه، وخرجتْ آية إلى بيوت الشُّهداء، تقبِّل رؤوس الأمَّهات، وتشدُّ على يد زوجاتهم، وتقرأُ على قلوبهنِّ آياتِ الصبِّر والاحتساب، وتذكِّرُهنَّ أنَّ اللقاء الحلو ما هو إلَّا وعدٌ مؤجل، لِتعانقَ كلُّ نفسٍ حبيبها.
مضى 11 يومًا على هذه الحرب الطَّاحنة، كان الهدوءُ يعمُّ قطاع غزة، اتَّفقت آية وعائلتها للخروج إلى رحلةٍ على شاطئ البحر، لكن يبدو أنَّ مهمةً عاجلة كانت من نصيب أسامة، لِيغادِرَ سريعًا تلبيةً لواجبه الجهادي، كانت هذه المهمة تتممةً لما بعد الحرب، فساعاتٌ قليلة وسيعود أسامة إلى البيتِ حاملًا معه لوازم الرحلة كما اتفق مع العائلة، مضتْ السَّاعات وعاد أسامة، لكنَّه عاد خبرًا عاجلًا: "أسامة شهيد يا آية".
رَحَل أسامة تاركًا كلَّ شيءٍ، ومن هنا أدرَكتْ آية أنَّها أصبحت تشاطرُ صديقاتها ذات اللقب: "حبيبة الشَّهيد"، وكان عليها هذه المرَّة أن تعودَ إلى البيت وحدها، وأن تُحكِم إغلاق الباب، فلن يقفَ "الشَّريكُ" خلفِ الباب يهدهِدُ على كتفِ آيته، يُطمئنُ خوفها أنَّ كلَّ ما رأته كابوسًا عابرًا. وها هو أمامها قد رُدَّ إليها، يناديها بصوتِه، يرشُّ عطره الذي اختارته آية ليتزيَّن به "زينة الشَّباب".
اقرأ أيضًا: أحلام اغتيلت بكاتم صوت: أتعود لوطنك برفقة تابوت؟
في لحظةِ اللَّقاء الأخير، عندما وقفتْ آية أمام منبرَ الصَّلاة، تودِّعُ أسامه إلى مثواه الأبدي، تلحقُ آخر البركات، وتهمسُ في أذنه: "رضيتُ عنك حبيبًا في الدنيا والجنة". غادرُ ركبُ أسامة سريعًا، كالسُّرعةِ التي نادت بها آية نداءها الأخير "الله يسهِّل عليك يا مسك فايح، الله يسهِّل عليك"، أدركتْ حينها أنَّها لا بدَّ أنْ تنهضَ لِتسيرَ في الطَّريق الذي تعاهدت فيه مع رفيقها على نصرةِ القضية وإعداد الجيل الصّالح. أن تحمِلَ الأمانة التي كُلِّفت بها في مواساة زوجات الشهداء ومساعدتهنَّ ومُساندةِ عوائلهنَّ. فهذا دربُها وأسامة من بداية حياتهم الزوجية.
| بعد رحيل أسامة
كيف تغيَّرتْ آية بعد رحيل أسامة؟ سألتُ هذا السُّؤال وأنا أرى أمامي إنسانةً تلمسُ القلوب، تصنعُ لطافةً حنونة في حديثها، قريبة من الجميع، لا تتركُ قضيةً إلَّا وتكتب لها. تجيبني آيةً بدءًا من اللحظة الأولى على الفراق قائلةً: "بعد استشهاد أسامة اختلفت الكثير من مقاييس الحياة بالنسبة لي، فها أنا أقفُ اليوم أمام ثلاثة أطفالٍ عليَّ أن أؤدي واجب الأم والأب في آنٍ واحد، لديَّ الكثير من الواجبات والمسؤوليات، ومن جانبٍ آخر أدركتُ أن رسالتي أصبحت أكبر أمام زوجات الشهداء والأسرى والجرحى".
تكمل: "اليوم أعرفُ جيدًا شعور زوجة الشَّهيد وما تعيشه وما تحتاجه أيضًا، وهذا ما دفعني لأستلَّ سلاحًا مداده الحبر، ورصاصهُ القلم، لأكتبَ باسم الوطن، والشهداء الذين رحلوا، ولأجل المُجاهدين الذين يفترشون الأرض ويلتحفون سقفًا من تراب، أكتبُ باسم الشَّوق والحب وظفرِ النِّهاياتِ أيضًا".
تتنوعُ كتابات آية، فهي تكتبُ النصوصَ للتعليق الصوتي على الفيديوهات، وتكتبُ المقالات والتقارير، لكن الأمر المُلْفِتْ أن نصوصَ آية تحقق قراءات كبيرة سواء على صعيد مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر المواقع الإلكترونية المتنوعة التي تعمل بها، وكلُّ حملةٍ أطلقتْها آية بتنوِّع محتواها، كان يُشارُ لها بالبنانِ نجاحًا وافتخارًا.
فما هو السَّر الذي جعل العيون تعانق حروف آية بهذا الشَّغف، تجيبني وهي تستحضرُ في ذاكرتِها بعضًا من النُّصوصِ القريبة: "عندما أكتب أشعر بأنني أحمل الجميع داخل عقلي، أنقل مشاعري باسمهم جميعًا، والحقيقة أنَّي أطمئِنُّ على نفسي وعلى من حولي عندما يخبرني أحدهم بأنكِ تترجمين ما أحسّ به، هذه الرسائل يبعثٌها الله لي ليذكِّرني بأن الحياة لم تتوقف بعد، وأنَّ هناك حياة مستمرة بحاجة إلى المزيد من العطاء والاتزان والقوة".
| آية والعائلة
وأمَّا عن حياة آية مع أطفالها، تقول: "لديّ اليوم ثلاثة أطفال بارِّين بسيرة والدهم، يهتمون بمواقفه معهم كأنها خطوطهم العريضة "هيك بيحكي بابا" " بابا كان بيعمل هيك". لقد خضتُ حرب الفقد مفتوحةً أمامهم، كانوا جيشي الذي أطمئنّ به، وقد كبروا عمرًا مضاعفًا حين توجّب عليَّ أن أربيهم على أنَّ اللهَ اختار "بابا" من بينِنا جميعًا ليذهبَ إلى جواره، وأنَّنا يجب أن نسعى، وأن سعينا سوف يُرى".
كانت آية أمام اختبارٍ صعب، لِتُعلِّمَ أطفالَها أنَّ الشَّهادة فوزٌ كبير، وأنَّ حبَّ "بابا" هو من سيشفع لهم ليستقبلهم عندما يأذن الله باللِّقاء. كانت تحاول آية أن تُشْبِعَ فضولهم تجاه والدهم الذي كان ينام بجانبهم ويروي لهم قصَّةَ ما قبل النوم، ولم يعد موجودًا الآن، فكان عليهم أن يُصدِّقوا بيقينِ الكبار، وبرضا المؤمنين الكامل، أنَّ والدهم تركهم يكملون رسالةَ السَّعي في هذه البلاد.
الصغيرة لين، ما تعلَّمته من كلماتٍ في درسِ التَّعبير، كانت كافيةً لكتابة رسائل الحُبِّ لحبيبِها "بابا"، ودَسِّها تحت الوسائد، مع أمنيةٍ مرسلة للسماء: "ياربِّ، ليأتيَ ساعي البريد يلتقط رسائلَنا ويرسلها ل"بابا" أسامة".
تذكُر آية بعضَ المواقف التي عاشتها مع أطفالها، خاصةً في الأيام الأولى بعد استشهاد أسامة، فهذا بِكرُها عمر، يستأّذنُ المُعزِّين ليرى أمَّه مُقبِّلًا رأسها، واضعًا يده على يديها وهو يقول: "بابا شهيد يا ماما، بس أنا موجود جنبك". كانت آية تستمدُ قوَّتها من عيون أطفالها، حتَّى في لحظات البكاء المُسترَق، كانت تأتيها ابنتهُا مريم ذات الست أعوام، تحتضنُها بعاطفةِ المُشتاق، تُطبطبُ على قلبها ببراءة الأطفال: "بابا بيستنَّى في الجنة، وراح يعرف إنك بتبكي". فتقوم مريم نحو صورة أبيها تحملها لِتضعها بجانبِ أمِّها، وهي تقول: "تخيليه موجود جنبك، احكيله شو بدك تحكي".
لم يختلفْ الأمر عند الصغيرة لين، فما تعلَّمته من كلماتٍ في درسِ التَّعبير، كانت كافيةً لكتابة رسائل الحُبِّ لحبيبِها "بابا"، ودَسِّها تحت الوسائد، مع أمنيةٍ مرسلة للسماء: "ياربِّ، ليأتيَ ساعي البريد يلتقط رسائلَنا ويرسلها ل"بابا" أسامة". لكنَّ ساعيَ البريد طال في غيابه، وتكدَّستْ رسائل الشَّوق تحت الوسادة، والكُّل على قارعةِ الانتظار، وماذا عسى القلبُ أنْ يقول في حضرةِ الغيابِ يا آية؟ أوليسَ دواءُ الشِّوق لقاءٌ كبير، يُكتبُ في جعبةِ العاشقين يا أم عمر؟!
| إلى رفيقاتي في الطريق
مواقفُ الفقدِ لا تُتَخطَّى بكلمة، "بتهون، بتمشي"، كلُّها كلمات كنتُ أسمعهُا في الأيام الأولى، واللهُ يشهد أنَّي كنتُ أبغضها، فلم أكنْ أريدُ لشيءٍ أن يمضي، أريد للعالم أن يتوقّفَ عند آخر "صباح الخير" من أسامة، وعند آخر رسالةٍ أرسلَها لي على هاتفي، كنتُ أنظرُ لكلِّ شيءٍ بغرابة، الحياة لم تتوقفْ!
وعندما خرجتُ إلى الشَّارع للمرة الأولى صُدِمتْ، النَّاس في الشَّارع تضحك، وأطفالي يعودون إلى مدراسِهم بقُبلةٍ واحدة فقط، وأنا أيضًا أعودُ إلى عملي، أزورُ أهلي دون أسامة، أتحدَّثُ مع أُمِّي وتشكي لي مُشاكسة إخوتي، وأطفالي يلعبون مع أصدقائهم ويضحكون، ثمَّ ماذا بعد؟! وجدتُّ نفسي أتحدث مع صديقتي وأنا أًصفُّ لها ما يحدث حولي بصدمة، لأختمَ حديثي معها قائلةً: "أعتقدُ أنَّ هذا الفقد كان انتزاعًا لروحي لأحيا لا أموت، وأن هذا الحزن شرٌّ لا بد منه".
يا زوجةَ الشَّهيد، مازال الطريقُ أمامكِ، فلا تتركي نورَ السَّعي يُطفأُ بظلامِ الحزن، استودعي حُبَّكِ في علمِك وعملِك وطاعتِك، واجهري بحبَّكِ للغائب الحاضر، فالجهر في شوق الشهيد حضنٌ حنون.
ومن هنا، إليكِ يا حبيبةَ الشَّهيد، يا قرَّة العين التي أُغمِضتْ على خجل، يا شريكةَ البيتِ الأول، وضَحكةِ الحُبِّ الأولى، إليكِ وأنتِ تعيشين على مشارفِ الانتظار الكبير، تضمدين جرحَ البُعد، وتحتضنينَ مصحف راحلِك، تُصلِّين ركعتين حاجةً للدعاء: "ياربِّ ارزقني منامًا أرى فيه شهيدي". إليكِ وأنتِ تُحاربين فضولَ السائلين المُتطفِّلين على حياتِك، إليكِ وأنت تتحوَّلين إلى امرأةٍ حديدية تحمي أطفالها من وخزِ إبرة، تُقَبِّلُهم كلَّ صباح، وتضمُّهم مرَّتين، مرةً عن قلبِها، ومرةً باسم والدهم.
أنت لستِ وحدك أبدًا، فأنتِ الروح الأخرى للشَّهيد، الإرثُ المُستردِّ، الرواية الصَّادقة لسيرته، الكتف الأمين لأطفالك. يا زوجةَ الشَّهيد، مازال الطريقُ أمامكِ، فلا تتركي نورَ السَّعي يُطفأُ بظلامِ الحزن، استودعي حُبَّكِ في علمِك وعملِك وطاعتِك، واجهري بحبَّكِ للغائب الحاضر، فالجهر في شوق الشهيد حضنٌ حنون.