بنفسج

أٌمُّنا عايدة الصِّيداوي: جارة الأقصى حين أُبعدت عنه

السبت 08 أكتوبر

وأخيرًا، دقَّ المُنبه للحظةِ المُنتظرة، وصدحتْ مِئذنة المسجد "حيَّ على الصلاةِ" ليُلبِّي خلفها قلبُ المُشتاقين " لبيّنا يا الله، فحيَّ على الجهاد". استيقظتْ عايدة بسرعة، وهي التي لم تنم سوى سويعاتٍ معدودة، فاليوم عيدٌ يلتقي فيه كلُّ حبيبٍ بحبيبه، ويا حُلو هذا اللقاء. ارتدتْ عايدة لباسَها الجديد، وجهَّزتْ طعامَ الحمام، وأخذتْ مصحفها الصغير، وطارتْ بقلبها نحو المسجد الأقصى، فاليوم ينتهي الإبعادِ القسري لأمِّنا عايدة عن الأقصى، والذي بدأ من 15 آذار وانتهى بـ 15 أيلول لهذا العام. دقائق معدودة حتَّى أصبح حلمُ اللقاءِ حقيقة، وها هي عايدة تقف أمام حاجز التّفتيش لتدخل إلى المسجد وتسجد سجدتها الأولى، وتقرأ سورة الفتحِ كما اعتادتْ، لكنَّ صوتًا فظًّا اخترقَ هذا الشُّعور وهو ينادي: "أنتِ ممنوعة من الدخول، أنتِ مُبعدة من هنا". لم تصدق عايدة ما تسمعه، وقفتْ تجادلهم وفي يديها الورقة التي تؤكد أنَّ فترة إبعادها قد انتهت قبل ساعاتٍ من الآن.

وأمام إصرار عايدة ورفضها للخروج، وهي تصدحُ بالتَّكبير والحوقلة، جاءتها المُجنَّدات وسحبوها إلى مركز الشرطة عنوةً. وهناك في غرفة التَّحقيق الضيقة، هذه الغرفة التي تحفظها عايدة ظهرًا عن قلب، لطالما جلستْ هذه الجلسة ويا كُثرَ المرَّات التي صرختْ في وجه المُحققين وهي تُخبُرُهم أنَّها لا تعرف لغتهم، وأنَّ عليهم أن يتحدَّثوا لغة القدس العربية، فلا لغةَ على هذه الأرض المقدَّسة سوى لغة القرآن، وأمَّا لغتهم الركيكة فليذهبوا بها إلى دول الشَّتات التي تجمَّعوا منها ليأتوا غاصبين مُحتلِّين.

نادى المُحقق على أحد الجنود الذين يعرفون العربية ليُترجَمَ لعايدة ما قاله: "أنتِ مُبعدة أسبوعًا آخرَ عن المسجد الأقصى، وبعد أسبوع عليكِ القدوم إلى هنا، لتأخذي الرد، إمَّا قبول الدخول، أو إبعادٌ جديد". تمالكتْ السيدة عايدة نفسها كي لا تذرفَ دموعها أمام الجنود، كي لا يشعروا بنشوة نصرٍ أو فرحةٍ بالقهر. اكتفت باستغاثةٍ: "حسبيَ الله ونعم الوكيل". وخرجتْ تحملُ طعام الحمام وتحتضنُ قرآنها تشكي حزنها وبثَّها إلى الله.

| "عايدة الصيدواي" جارة المسجد الأقصى

 
هذه المُرابطة المقدسية عايدة الصيداوي (61 عامًا)، أو كما تحبُّ أن يناديها أبناء القدس أمُّنا عايدة، وُلدتْ في مدينة الخليل (جنوب الضفة الغربية)، وكان كرمُ الله عليها أن تتزوجَ مقدسيًا يحمل معه مهرًا لا يشبُه أي مهر، وهو بيتٌ يطلُّ على باب الحديد أي في الرواق الغربي للمسجد الأقصى. مُنحتْ عايدة هذه الهبة الكبيرة لِتصبحَ جارةَ الأقصى. وعرفتْ حينها ما معنى حقُّ الجار على جاره، لِتبدأ بتأدية هذا الواجب بكل ما أوْتيتْ من قوةٍ ومن حب حتَّى أصبح الأقصى هو بيتُها الأول.

هذه المُرابطة المقدسية عايدة الصيداوي (61 عامًا)، أو كما تحبُّ أن يناديها أبناء القدس أمُّنا عايدة، وُلدتْ في مدينة الخليل (جنوب الضفة الغربية)، وكان كرمُ الله عليها أن تتزوجَ مقدسيًا يحمل معه مهرًا لا يشبُه أي مهر، وهو بيتٌ يطلُّ على باب الحديد أي في الرواق الغربي للمسجد الأقصى. مُنحتْ عايدة هذه الهبة الكبيرة لِتصبحَ جارةَ الأقصى. وعرفتْ حينها ما معنى حقُّ الجار على جاره، لِتبدأ بتأدية هذا الواجب بكل ما أوْتيتْ من قوةٍ ومن حب حتَّى أصبح الأقصى هو بيتُها الأول، تستيقظُ صباحًا، تحمل عدَّةَ المُجاهدين، وتجهِّز الطعام، ولا يمكن لها أن تنسى زاد الحمام، وما تيَّسر من طعامٍ للقطط. فكلُّ من يُرابطُ في ساحات الأقصى يعرفُ أمُّنا عايدة.

1-15.jpg

تجلسُ في حلقاتِ القرآن، لتنتقلَ بعدها إلى حلقةِ التفسير، وما أن تنتهيَ من هذا الدرس تجتمع وصديقاتِها، يتسابقن في تنظيفَ المسجد، فهذه تمسحُ النوافذ، وتلك تركض نحو "المكنسة" قبل أن تأتي غيرها وتأخذ هذا الأجر العظيم، وعايدة تناديهن: "اتركُنْ لي شيئًا من الأجر" حتَّى تأتي إحداهنَّ قائلة: "كلّ يومٍ تسبقيننا وتأخذينَ الأجرَ الأكبر، اليوم ارتاحي قليلًا". وكيفَ لقلبٍ كقلب المُرابطة عايدة أن يرتاحَ عن خدمةِ الأقصى؟ هذه المرابطة التي لا تترك شيئًا من فروضها وسننها وقيامِها إلَّا وتؤديه في المسجد. وما إن عادتْ إلى بيتِها مساءً لتنالَ قسطًا من الرَّاحة، إلَّا وتفتح نوافذَ بيتِها لتبقى رائحة الأقصى تفوح في أرجاءِ البيت.


اقرأ أيضًا: المرابطة زينة عمرو: عن الحياة في كنف المسجد الأقصى


إن العزيمة والقوّة التي تمتازُ بها عايدة جعلتها محطَّ أنظارٍ أمام جنود الاحتلال، يتربَّصون لها أيَّ مكيدة لِيُعاقبوها بالإبعادِ عن الأقصى. هذه العقوبة الأقسى والأكثر وجعًا على قلبِها، ففي كلِّ مرةٍ يتم إبعادُها، تشعرُّ أنَّها في غربةِ بلادٍ بعيدة. عندما بادرتُ السؤال كم مرةً تم إبعادك عن الأقصى؟ أجابتني: من كترهم يا بنتي ما عدتْ أتذكر، أبعدوا جسدي لكن روحي بطُّوف عند الأقصى حبيبي.

| الإبعاد عن المسجد الأقصى 

اطار2.png
المرابطة المقدسية عايدة الصيداوي تواجه جنود الاحتلال بعد المضايقات لمنعها لدخول المسجد الأقصى

أول إبعادٍ عاشته عايدة بدأ في 2007 عندما هدم الاحتلال جسر المغاربة، كانت ترابطُ في الأقصى منذ ساعات الفجر، ومع كلِّ صوتِ حجرٍ يُهدَم كان صوت عايدة يصدحُ بالتَّكبير، ليشحذَ همةَ المرابطين المجاهدين الذين كانوا يدافعون في السَّاحة الخارجية، وكلَّما اعتُقل أحدهم تنادي: "بتهون يمَّا عشان الوطن، الوطن غالي".

بقيتْ عايدة في المسجد تقرأ القرآن وتدعو الله أن يحفظَ المسجد المُقدَّس. وبعد لحظاتٍ سمعتْ الجنود ينادون على اسمها لتُسلَّم نفسها للاعتقال، لكنَّها رفضتْ الخروج وظلَّت عاكفةً مُسبِّحة مُصلية، وخرجتْ بعد ساعاتٍ وعينُ اللهِ ترعاها لِتصلَ بيتَها وتأكلَ شيئًا يعينُها ويقيمُها، وترتاح قليلًا، وما هي إلا لحظات حتَّى استيقظتْ على صوتِ الجنود يحيطون البيت من داخله وخارجه لاعتقال المُرابطة عايدة.

4-8.jpg

بخطواتٍ ثابتة قامت عايدة وارتدتْ حجابها وخرجتْ متوكلةً على الله، لا تخافُ شيئًا حتَّى أنَّها لم تقبل أن يأتي أحدٌ من عائلتها معها، وأوصتْ زوجها أن يرابطَ في البيت لئلَّا يستغلَّ الجنود هذا الاعتقال بمكيدةٍ من مكائده المُعتادة. حُكم على عايدة بالإبعاد عن القدس لمدة 15 يومًا مع غرامةٍ مالية تقدَّر بـ 3000 شيكلًا. لم تثنِ المرابطةَ الصامدة أيُّ عقوبةٍ عن مواصلة الرباط في الأقصى، فما أن ينتهي الإبعاد حتَّى تعود من جديد بروحٍ عشرينية لخدمةِ الأقصى وضيوفه.

وأمَّا عن الأيام التي تبعد فيها عن الأقصى، لا تتوقف عايدة عن فريضة الرِّباط، تقول في هذا: "في الأيام التي أُبعد عن الأقصى، أرابطُ في أقربِ نقطةٍ تطلُّ على الأقصى، أذهب إلى تلة "المطلة" وأقرأ قرآني وأُكحِّلُ عيني برؤيته، وما أن يأتي وقتُ الصَّلاة، أذهب رفقة صديقاتي المُبعدات إلى طريق المُجاهدين لنقيمَ فروضنا...".

2-13.jpg

قُطِعَ صوت أمِّنا عايدة وهي تحادثني، لقد حشرجت بالبكاء، وهي تتذكر أيام الإبعاد، خاصة أنَّها ما زالت تعيشُ لهذه اللحظة إبعادًا قسريًا ظالمًا. واصلتْ حديثها بحسرة وهي تقول لي: "يا ابنتي كلُّ القدس رباط، نرابطُ في شوارعِ القدس، في بيوتِنا، في أماكن عملِنا، نرابط بالفداء بأرواحنا لأجل حرية مسرى الحبيب المصطفى صلَّى الله عليهِ وسلَّم".

| تهم باطلة

اطار1.png
المرابطة المقدسية عايدة الصيدواي مع هنادي الحلواني ورفيقتهم من القدس أثناء تناول المقلوبة الفلسطينية في باحات الأقصى

تعيشُ عايدة وعائلتِها صعوباتٍ من نوعٍ مختلف، فكرامةُ أن تكون جارة الأقصى، جعل بيتها نقطة ضغطٍ يستغلُّها الاحتلال الإسرائيلي للمساومة والمراوغة، فكما عاش والدُ زوج عايدة "حماها" هذه المراوغة في المرة الأولى حين عُرض عليه مبالغ طائلة لبيعِ هذا البيت، إلَّا أنه وقف في وجههم قائلًا: "هذا البيت أغلى من كلِّ ملايين العالم".

وها هي عايدة وزوجها يعيشون القصَّة ذاتها، يرفضون كلَّ أشكال الإغراءات، ويتحمَّلون الغرامات والعقوبات والمُضايقات فداءً لهذا البيت. وفي كلِّ مرةٍ تستدعى عايدة، وتعتقل، يعيد المحققون العرضَ ذاته، ويقدِّمون مبالغ أكبر، لكن عبثًا يحاولون، تقولَ عايدة: "إنَّ بيتيَ الكائن بجوار الأقصى يُمثِّلُ روحي ومُهجة قلبي، فكيف يبيعُ الإنسان روحه؟".

3-9.jpg

مسافةٌ تقدَّرُ بخمسِ دقائقَ لتستطيع عايدة الوصولَ إلى ساحةِ المسجد، لكنّ الحواجز ونقاط التَّفتيش التي يتعمَّد جنودُ الاحتلال وضعها تُعرقل وصولَ المصلِّين والمُصليات، خاصةً أنَّه لجأ في السَّنواتِ الأخيرة إلى سحب هويَّات المُصلِّين قبل الدخول، والهدف من ذلك هو سهولة تسليم هذه الهوية لمركز التحقيق، واستدعاء أي شخص داخل الأقصى وحبسه مباشرةٍ تحت تهمٍ باطلة. فاليومَ كلُّ حركةٍ من الفلسطيني المقدسي تُعتبر تهمة، بدءًا من الرَّباط في الأقصى، وصولًا إلى الجلوسِ قريبًا من أحد الأبواب المواربةِ للمسجد.

| رسالةٌ إلى المُشتاقين

لم تنسَ عايدة كلَّ المحرومين من زيارة القدس، فجرحُ الإبعاد واحد، ولوعةُ الاشتياقِ ذاتها، وهذا ما جعلها ترددُّ بصوتِ الثَّابتين: "ولو أُبعدِنا هل سنتوقف عن الجهاد؟ إليكنَّ يا صديقات الإبعاد، يا أهلَ ضفة العيَّاش، ويا أهل غزّةَ العزة، كلُّ كلمةٍ رباط، فالدُّعاء للأقصى، وتوعية أبنائنا وأطفالِنا لمكانة الأقصى وما يحدث في ساحاته رباط، وما تقدِّمونه من صمودٍ، وما تلُّبونه من نداءِ أهل القدس هو رباط. هذا الإبعاد على حافة الانتهاء، ونصرُ قريبٌ سيطلُّ علينا.ليأتيَ ذلك اليوم الذي أَضعُ يدي بيد عائلتي من غزة وأهلي من الضَّفة، لندخلَ كلُّنا ساحات المسجد الأقصى فاتحين مهلّلين مُكبِّرين بنصرِ الله ووعده الحق".

ليس سهلًا أبدًا أن تُحرم من زيارة جارك، وليس هيّنًا أن تراه من بعيد وتكتفي بالتَّلويحِ له، لم تتوقفْ أُمُّنا عايدة عن البكاء شوقًا لساحات المسجد الأقصى، فطيورُ الاعتصام تفتقدُ طلَّتَها عليهم كلَّ صباح، و"حلّة" المقلوبة التي كانت تعدُّ رفقةِ صديقاتها كلَّ يوم لم يعد لقلبِها طعمٌ دون أن تكون في ساحةِ الأقصى، على صوت الآذان، بجوار القُبَّةِ الذَّهبية. كلُّ ما في الأقصى مختلف، ماؤه لا تشبه مياه البيوتِ العادية، حتَّى لُقمة الأقصى فيها من البركة ما يُطعمُ كل المرابطين. في الأقصى تعود مرابطُتنا طفلةٍ صغيرة، تُحلِّقُ من بابٍ إلى باب، تسقي المجاهدين، تُطعمُ الضيوف، وكلُّ هذا السعي دون كللٍ أو تعب، فهذا الأقصى، قِبلةُ المُشتاقين، ومأمنُ الخائفين، وصدقَ المُجاهدين.

5-6.jpg

لم تنسَ عايدة كلَّ المحرومين من زيارة القدس، فجرحُ الإبعاد واحد، ولوعةُ الاشتياقِ ذاتها، وهذا ما جعلها ترددُّ بصوتِ الثَّابتين: "ولو أُبعدِنا هل سنتوقف عن الجهاد؟ إليكنَّ يا صديقات الإبعاد، يا أهلَ ضفة العيَّاش، ويا أهل غزّةَ العزة، كلُّ كلمةٍ رباط، فالدُّعاء للأقصى، وتوعية أبنائنا وأطفالِنا لمكانة الأقصى وما يحدث في ساحاته رباط، وما تقدِّمونه من صمودٍ، وما تلُّبونه من نداءِ أهل القدس هو رباط. هذا الإبعاد على حافة الانتهاء، ونصرُ قريبٌ سيطلُّ علينا، ليأتيَ ذلك اليوم الذي أَضعُ يدي بيد عائلتي من غزة وأهلي من الضَّفة، لندخلَ كلُّنا ساحات المسجد الأقصى فاتحين مهلّلين مُكبِّرين بنصرِ الله ووعده الحق".