بنفسج

خطيبة وزوجة أسير: ميثاق غليظ يؤرق الاحتلال

الثلاثاء 04 أكتوبر

في ليلة الثالث عشر من كانون الأول، تلك الليلة التي كانت مليئة بخيرات السماء، الغيوم مُلبّدة والمطر وافر والبرد القارص يضرب العظام، على الناحية الأخرى شنّ الاحتلال حملته العنصريّة ضد شباب حركة المقاومة الإسلامية "حماس" خوفًا من إقامة مهرجانات الحركة في نهاية العام. في تلك الليلة كنت أنتظر مكالمة هاتفية من "خطيبي" كما كُلّ ليلة، لكن النّعاس غافلني واستحوذ عليّ، فنمت قبل أن يرن هاتفي! بُعيد آذان الفجر استيقظت على صوت الهاتف وهو يرن، وبُلّغت بخبر اعتقال خطيبي. وهذه ليست المرّة الأولى التي يرن هاتفي لأجل هذا النبأ! لكنّها المرّة الأولى التي عايشت تلك المشاعر المتضعضعة والمضطربة. ليلتها، طوّق الاحتلال غالبية مناطق للضفة، والاعتقالات طالت [30] شابًا ورجلًا، من بينهم تم اعقتال رجل وزوجته معًا.

في البداية سأخبركم بمن أنا، سماح اليونس، صحفية أو خريجة إعلام جديدة، تكتب عن الأسرى، وتمكنت من أخذ حقّي في التدريب الجامعي وتدربت في نادي الأسير، فمنذ تأصّل قضية الأسرى بدمي، أصبحت مُتابعة لكُلّ كبيرة وصغيرة في صحافة الأسرى، ومُلمّة بشتّى الأمور؛ منها أن أتفقّد حالات الاعتقال اليوميّة.

قبل انقضاء اليوم الأوّل، بحكم معرفتي بالمحامين، أرسلت إلى أحدهم معلومات أنس الشخصية ووقت اعتقاله، وهنا كانت الصدمة، "خطيبك بالجلمة" شهقت خوفًا عليه، فكثيرًا ما سألت الأسرى المحررين عن ظروف "الجلمة" فأنا أعرفها جَيّدًا أنها سيئة. لكن بإمكاني القول إنها مضت الليلة الأولى بصبرٍ عظيم وطمأنينة رزقني الله بها، لا أعرف كيف حصدتها، لكني كنت مُطمئنة عليه جِدًّا.

عودة لليلة اعتقال خطيبي، تفقدت الأسماء ولم يكن اسم "أنس" من بينهم فأرسلت اسمه "أنس مسكاوي/قلقيلية" لصحافية فيحاء شلش للتأكد. كنت مُتماسكة بعض الشيء، قوية؛ فكما قلت سابقًا ليس الاعتقال الأوّل له، فقبل أشهر قصيرة اعتُقل لدى الاحتلال ليومٍ واحد فبما معناه "شربت الصدمة". وكان لديّ أمل بعودته في اليوم الذي يليه، والذي برّد ناري هو أن اعتقالات تلك الليلة "حملة"، والمعروف عن الحملة أنّها تكون احترازيّة ليوم أو يومين وينتهي الأمر!

في صباح اليوم ذهبت إلى الجامعة، كنت في آخر فصل دراسيٍ لي، وتابعت سير حياتي بشكلها الطبيعي دون أيّ منغصات، كنت أحمِل في قلبي مشاعر الفتيات اللاتي عقدن قرانهن بمطارد وبعدها اعتُقل وانتظرنه سنوات، وتلك التي ارتبطت بأسير مؤبد، فأنا أمامهن لا شيء، وإن كانت لنا نفس التجربة رغم قصر عمرها، لكنّي لا شيء مُطلقًا.

قبل انقضاء اليوم الأوّل، بحكم معرفتي بالمحامين، أرسلت إلى أحدهم معلومات أنس الشخصية وقت اعتقاله، وهنا كانت الصدمة، "خطيبك بالجلمة" شهقت خوفًا عليه، فكثيرًا ما سألت الأسرى المحررين عن ظروف "الجلمة" فأنا أعرفها جَيّدًا أنها سيئة. لكن بإمكاني القول إنها مضت الليلة الأولى بصبرٍ عظيم وطمأنينة رزقني الله بها، لا أعرف كيف حصدتها، لكني كنت مُطمئنة عليه جِدًّا، فأعرفه شابًا عنيدًا رافضًا الخضوع.

بدأت أعدّ الليالي دونه، دون كلامه أو زيارته لي، مضى الخميس تلو الخميس، حيث كان كُل خميس لديه جلسة محاكمة. وما بين الجلسة والأخرى يُمدد. مضت الأيام، ولا زلت أجهل مكان وجوده، في حال انتقل على سجن "مجدو" إذًا سيتصل بعائلته، لكنّ الأمور مضت على عكس توقعاتنا، بعد ١٩ يومًا حُوّل ملفه إلى محكمة سالم، فرِحت كثيرًا لأنّي أستطيع زيارته ورؤيته. حضرت نفسي في الصباح الباكر، وذهبت برفقة عمي -والده- ومضينا، كتبت له رسالة بعدما عُدت، بعيدًا عن الظلم الذي مررنا منه لكنه هان لمجرد رأيته!

سلامٌ عليك وأنت وسط القيود الصدئة، والذكريات العصيبة. سلامٌ عليك وأنت تضحك وسط القهر وتبكي في عُزلتك، تُلملم شتات ضعفك في أوج قوتك، وتذبذب قوتك في عِزّ ضعفك. سلامٌ عليك وأنت تواصل التحقيق لساعات وساعات وساعات. أمّا بعد يا حبيبي، اليوم بعد 19 يومًا التقينا، رغم كل التعقيدات التي حالت حولنا، بعد 19 يومًا ضحك لي اليوم، والأسبوع والشهر والعام. اليوم بعد ١٩ يومًا التقيتك.


اقرأ أيضًا: "عطب لا يعوض": عن الغياب حين يوقف عجلة الحياة


لا أنسى الثواني التي جلستها أنتظر قدومك بعد أن نادى على اسمك الجندي الإسرائيلي، لا أتخيّل أنّي سأنسى اللحظات الأولى عند قدومك الجلسة بزي "الشاباص"، وهيئتك المختلفة تمامًا على ما اعتدت عليه، عند دخولك ناديت بين وبين نفسي "أنس"، قلت لوالدك "أنس أجا" برعشة يدي وبرودتهما في آن معًا. ناديتك أنس، أنس. لم تسمعني بسبب انشغالك مع المحامي، أنس، عندها نظرت إلي، ضحكت كما البدر، شعرت لوهلة أن لون وجهك تغير، بعدما كان قريبًا من ظلم الأيام التي عشناها. حاموا حولك الجنود كونه ليس الوقت المناسب للكلام، انتهت الجلسة وسمحوا لنا أخيرًا بالكلام معك!

لم تكن أنس الذي أعرفه، ملامح التعب والقهر تقطر من عينيك، تجاعيد الظلم على وجهك بارزة، طعنات الغدر تقتل روحك. أعرف بأنك حينما رأيتني لم تتوقّع قطّ مَرّة أن تلقاني، لكن! قيّدوك وأحالونا للمغادرة، عملت إشارة قلب حُب وضحكنا، تغامزنا، تحدثنا بأبسط الكلام كلها كانت لثوانٍ فقط، وانصرفنا، أو بالأدقّ صرفونا كلانا. صدفة، نظرت للجهة المقابِلة رأيتك وسط جنود سود على ما أظن، تصعد عتبات البوسطة للعودة إلى مقبرة الأحياء "الجلمة". ناديتك، وبإيماءات بسيطة قهرناهم بها رغم براءتها.

أما بعد، وهُنا هي حكاية القهر. وجهك المُتعب، عيناك المقهورتان، يداك المُقيّدتان، وجسدك الهزيل، لكنك صامد وصادم بصمودك وصبرك. لم أستطع تجاوز وجهك ونظرتك المكلومة، لا أستطيع نسيانك بهذه الحالة. حبيبي، مهما قيدونا وعقدونا ستبقى عزائمنا كما هي، أحبك رُغمًا عنهم.

[٣٠-١٢-٢٠٢١]  بعد أشهر تزوجنا، وها نحن نقارع الحياة معهم، فقبيل فترة وجيزة اقتحم الاحتلال منزل عمي -منزل والده- وعاثوا في البيت خرابًا، ثُمّ انسحبوا، منذ ذاك الوقت ونحن نترقّب الأخبار بعناية، ثُمّ ننام! وما أن سمعنا أن هناك اقتحام لمدينة قلقيلية، جهزنا أنفسنا للبلاء الأعظم (الاقتحام، والاعتقال). وقضينا تلك الليلة على شرفة المنزل ونتابع الأخبار عن كثب! عند قراءتي لخبر الاقتحام، أضع يدي على قلبي وأدعو "اللهم إن كان خيرًا لنا فليكن، وإن شَرًّا فليرحل عنّا" وبعد قراءة خبر انسحاب الجيش ننام!

مضى على زواجنا ٣ أشهر ونصف تقريبًا، ولا أملك مصاغي، فأخرجناه من البيت خوفًا من الاقتحام المُباغت وسرقته، يا له من شعورٍ حقير، أن تملك شيئًا ولا تستطيع وضعه في بيتك! ما أودّ قوله، هو أنّ هذه البلاد تستحق منّا كُلّ ما نملك، وأن هذا الطريق الشائك في نهايته نصر مبين، وكما يُقال "هذا السبيل ولا بديل" الحمدُ لله على هذا التكريم من الله، وعلى هذا الابتلاء، وعلى هذه المكانة. ربّنا تقبّل منّا عملنا واجعلنا من الصابرين.