لم يكن لقاء واجاهيًا بل كانت دردشة عبر فيديو واتس آب، نظرت إليّ نظرة واحدة رحبت بي من خلالها، وبعدها لم تشح بوجهها ولا بناظريها عن المسجد الأقصى الذي لا يبعد كثيرًا عن منزلها، لم تكتف من ترديد جملة "هذا هو طريقي الذي منّ الله به علي"، وفي كل مرة تقولها أشعر بصوتها تخنقه العبرات. قالت بعد أن أشارت إلى الطريق الذي يفصل بين بيتها وبين المسجد: "انظري ما أجملها، إنها طريق الأقصى". كم هو قريب من قلب نفيسة، وكم تعلّقت روحها به. لكل مرابط ومرابطة قصة مع الأقصى، وقصة بنفسج في هذا المقام عن المرابطة المقدسية نفيسة خويص.
هناك في ساحات المسجد الأقصى حيث لا مكان للشعارات، ولا مجال للتخاذل. يتسابق مئات المقدسيين من المسلمين؛ شيوخًا، وشبابًا، ونساءً، وأطفالًا، بنية الرباط، وبهدف منع المستوطنين من تدنيسه ومحاولة تهويده أو هدمه. فمنذ عام 2010 قرر أهل القدس بدأ مرحلة جديدة وممنهجة لإفشال المخطط الصهيوني الذي يرمي إلى تهويد المسجد الأقصى، حيث التنسيق الدقيق بين المرابطين، ليبقى المسجد ممتلئًا على مدار اليوم، فلا يتسنى للمستوطنين الاستفراد به وتخريبه.
المرابطة المقدسية: نفيسة خويص
من بين هؤلاء المرابطين المرابطة المقدسية نفيسة خويص التي ترى أن الأقصى هو بيتها، ولا تستطيع تركه أو التخلي عنه، وأنها على استعداد لفدائه بكل ما تملك "لو قطعوني قطعًا لن أبتعد عن الأقصى، هو بالنسبة لي بمنزلة الروح للجسد، ومهما طاردني الجيش فسأبقى كالشوكة في حلوقهم. لقد كبرت وتربيت في المسجد الأقصى وعلى أعتابه، هو من حقي ولن أسمح لهم باجتثاثي منه". هكذا عبرت المرابطة المقدسية نفيسة خويص عن حبها للمسجد الأقصى وتمسكها به مهما لاقت من مضايقات وتنكيل.
نفيسة هي واحدة من قرابة 400 من المرابطات في المسجد الأقصى اللواتي لا يملكن سلاحًا سوى التحلق حول الأقصى والتكبير كلما تعرض المسجد لخطر الاقتحام، وبالرغم من بساطة السلاح في ظاهره إلا أن فعله فتاك، مما يثير جنون المستوطنين وشرطة الاحتلال، ويدفعهم لاتخاذ إجراءات صارمة بحقهن مثل؛ الضرب والإبعاد والاعتقال، معتقدين أنها ستفتك بعزم المرابطات هناك، لكنها زادت من قوة بأسهن وإصرارهن على المواصلة.
"أبعدوني واعتقلوني واضربوني عشرات المرات؛ ضربوني في سلوان والعيسوية، كسروا يدي بالقرب من باب العمود، كسروا أصبعي في حي الشيخ جراح، نزعوا حجابي عن رأسي وسحبوني من شعري، لكن مهما فعلوا وتمادوا لن يبعد نفيسة عن المسجد الأقصى إلا الموت".
اقرأ أيضًا: أٌمُّنا عايدة الصِّيداوي: جارة الأقصى حين أُبعدت عنه
ليس غريبًا ذلك الثبات، فجمال القدس وهيبة المسجد، يبثان في روح كل مسلم هناك قوة من نوع آخر، إنها قوة العقيدة التي تذكرهم في كل لحظة بوجوب الدفاع عن مسرى النبي -صلى الله عليه وسلم-. تقول نفيسة: "لا أحد يستطيع توقع كم القهر الذي أشعر به عند كل إبعاد، كذلك لا يمكن تصور مدى السعادة التي تتملكني عندما أعود إلى المسجد، وبمجرد دخولي أرمي بنفسي على أرضه وكأنني بين أحضان أمي أو أبي".
تعلّق نفيسة بالأقصى جعل اسمه يجري على لسانها أينما ذهبت، حيث أخبرتنا أنها عندما ذهبت إلى مكة المكرمة لأداء مراسم العمرة، فكانت طوال الوقت تجيب كل من يسألها: أين كنتِ يا نفيسة؟ فتقول: "كنت أصلي في الأقصى". وإذا أرادت الذهاب إلى الحرم المكي للصلاة سألت صديقاتها: "هل ستذهبن معي للصلاة في المسجد الأقصى؟".
الإبعاد عن المسجد الأقصى
ما زالت نفيسة تتحدث والألم يعتصر فؤادها: "أنا الآن مبعدة عن المسجد منذ 15 حزيران/يونيو وحتى 15 كانون الأول/ديسمبر لعام 2022، بينما قطعان المستوطنين بمساعدة الشرطة يسرحون ويمرحون. "وما زالوا يهددونني بالتمديد الإداري، لكن لن أتراجع وسأواصل نزولي إلى الأقصى كل يوم".
الكلمات البذيئة التي كانت تسمعها نفيسة من شرطة الاحتلال في كل مرة كانت، تنزل إلى الصلاة في المسجد، أو تصعد إلى بيتها، وأيضًا صعوبة نزولها عن الجبل بحكم سنها جعلها تفكر في شراء توكتوك يسهّل حركتها من وإلى الأقصى، لم يكن ذلك الهدف الوحيد، بل أيضًا مساعدة كبار السن والأطفال من جيرانها.
ما زالت نفيسة تتحدث والألم يعتصر فؤادها: "أنا الآن مبعدة عن المسجد منذ 15 حزيران/يونيو وحتى 15 كانون الأول/ديسمبر لعام 2022، بينما قطعان المستوطنين بمساعدة الشرطة يسرحون ويمرحون. "وما زالوا يهددونني بالتمديد الإداري، لكن لن أتراجع وسأواصل نزولي إلى الأقصى كل يوم، وإن كنت ممنوعة من دخول الأقصى سأصلي أمام بواباته".
الكلمات البذيئة التي كانت تسمعها نفيسة من شرطة الاحتلال في كل مرة كانت تنزل إلى الصلاة في المسجد، أو تصعد إلى بيتها، وأيضًا صعوبة نزولها عن الجبل بحكم سنها جعلها تفكر في شراء توكتوك يسهّل حركتها من وإلى الأقصى، لم يكن ذلك الهدف الوحيد، بل أيضًا مساعدة كبار السن والأطفال من جيرانها، وتسهيل نزولهم؛ فهي تسكن في منطقة مرتفعة عن المسجد كما أوضحت.
اقرأ أيضًا: نهلة صيام: ابنة أبيها ووريثته في الرباط
تقول نفيسة: "كان يتسع التوكتوك لخمسة أشخاص، كنت أنقل كل من احتاج للمساعدة ولم أكتف بنقلة واحدة. لم يدم ذلك طويلًا، فقد لحقوا بي إلى حي الشيخ جراح وخالفوني بمبلغ من المال، واحتجزوا التوكتوك قرابة سبعة أشهر". لم تيأس الحاجة نفيسة، وبعد جهود حثيثة لاستعادة التوكتوك، حكمت لها محكمة الاحتلال بالحصول على توكتوك يتسع فقط لشخصين بهدف التضييق عليها، ومنعها من مساعدة كبار السن في الوصول إلى الأقصى، لكن نفيسة لم تستسلم وظلت تنقل من يحتاجها رغمًا عن أنوف الأعداء.
فجأة، وأثناء الحديث، صرخت نفيسة بحرقة: "تستفزني أفعالهم داخل أسوار المسجد؛ يرفعون الأعلام، يأدّون طقوسهم التلمودية وصلواتهم، يرقصون ويغنون، ويحلقون رؤوس أولادهم، بل وصل بهم الأمر إلى تنفيذ عقد القران داخله، والمصيبة الأكبر أنهم يدخلونه عراة غير آبهين بحرمته".
كما استهجنت المرابطة المقدسية نفيسة خويص صمت الدول، وطالبت الجميع بالوقوف عند مسؤولياته في حماية الأقصى بخطوات عملية فاعلة، بعيدًا عن التنديدات التي صنعت لرفع العتب عن المتخاذلين في هذا العالم الأصم. رددت كثيرًا "الأقصى في خطر" حتى بللت الدموع وجنتيها، نادت بأعلى صوتها: "الأقصى يريد رجالًا تحميه. شدوا الرحال إلى الأقصى قبل أن يفوت الأوان ونبكي عليه دمًا.
اقرأ أيضًا: كيف أصبحت هنادي الحلواني المرأة الأخطر في مدينة القدس؟
أين مسلمو العالم؟ بل أين أصحاب الضمائر الحية مما يجري في القدس؟ الأقصى ليس للفلسطينيين فقط إنه للمسلمين جميعًا، وعليهم أن يدافعوا عنه بكل ما أوتوا من قوة. الأقصى لا يريد من يفرشه سجادًا، ولكن من يحميه ويحيطه بالأمن". وهكذا ظلت تناشد ولسان حالها يقول لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي.
لقاء عبر فيديو واتس آب كان كفيلًا برصد كمية الحب والتعلق والانتماء التي تكنه المرابطة المقدسية نفيسة خويص للأقصى، ومدى خوفها وحرصها عليه، كان واضحًا في كل نبرة من نبرات صوت السيدة التي تجاوزت السبعين من عمرها، أنها على استعداد لفداء المسجد بحياتها. ختامًا، لم يكن ما ذكرناه على لسان نفيسة، قصتها وحدها، وإنما قصة مئات المرابطين الذين يغارون على المسجد الأقصى، ولا يتوانون ثانية عن نصرته حتى لو كلفهم ذلك أغلى ما يملكون.