بنفسج

مطبخ الأسيرات وأطباقُ "المنع الأمني"

الثلاثاء 08 اغسطس

وأخيرًا إنه يوم الثلاثاء، هذا اليوم المُنتظر، ولا نخفي حماسة الجميع لأجل هذا اليوم. وقفتْ "الخوليا" وهي تمسك ورقةً وقلمًا: "يلا يا بنات شو بدكم أغراض؟ فكروا بسرعة". كان هذا النداء بمنزلة اعترافٍ بالحب أمام الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، فهذه اللحظة التي تكتب فيها كلُّ أسيرة الأغراض اللازمة والضرورية جدًا لتأمين طعام الأسبوع داخل غرفة السجن. قفزت أسيرةٌ جديدة تُدعى "آمنة" كطفلةٍ مُدللة وهي تقول: "بدنا ملوخية خضرا، كتير على بالي".

وما لبثت أن انتهت من هذا الطلب إلَّا وصوتُ الضحكات تتعالى في الغرفة وكأنَّ نكتة الموسم قد أُطلقتْ للتو، لم تفهم آمنة سبب هذا الضحك. ما المُضحك في هذا؟! سألتْ صديقاتها الأسيرات بكل براءة، حتَّى جاءت إحداهنَّ وهي تحاول ترتيب كلماتها دون أن تعودَ للضحك من جديد. "الملوخية هنا ممنوعة يا حبيبتي آمنة، هذه أكلة للرفاهية وممنوع يفوتوها". انتهتْ "الخوليا" من كتابة القائمة، وضمَّتْ الورقة استعدادًا لتسليمها لإدارة السجن. هذه "الخوليا" هي أكثر الأسيرات مكانةً، وهذا اللقب يُخصص لمن تقوم بمهمة كتابة مستلزمات الأسيرات الغذائية بشكلٍ أسبوعي، وإعطائها لإدارة السجن لتأمين الحاجيات والضروريات.

وفي قياس "المُستلزمات"؛ فبعض هذه الأغراض تنظر إليها إدارة السجن على أنها "رفاهية"، وبالتالي ترفض إدخالها للأسيرات، وتلجأ لأسلوبٍ دنيء في توفير القليل من هذه الحاجيات في "الكانتينا"، وبأسعار عالية، لِتُجبِر الأسيرات على شرائها من مالهنَّ الخاص.

مطبخ الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال

IMG-20230730-WA0016.jpg
لم يكن كل الطعام متوفرًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي فكثير منهن يشتهين أنواعًا ولكنها ببساطة ممنوعة

في هذا اللقاء يتجوَّل قلم "بنفسج" مع الأسيرة المحررة آمنة اشتيه (22 عامًا)، هي ذاتها الأسيرة التي دخلت السجن للمرة الأولى وهي لا تعرف أنَّ وجود "الملوخية" جريمة، وأنَّ الأساس في طبخ الطعام هو سدّ جزء من الجوع فحسب، وما دون ذلك كان بعنوان "دبروا حالكم"، كما كانت إدارة السجن تقول لهن. استلمتْ آمنة اشتيه مهمةً عزيزة في غرفة السجن، فأصبحت "شيف الغرفة" برفقة بعض الصديقات اللواتي يتناوبن على مساعدتها في تحضير وجبات الطعام للأسيرات.

إنَّ القانون الذي تتبعه إدارة السجون الإسرائيلية في تقديم الطعام، هو توفير المواد الخام اللازمة لتجهيز الطعام، بحيث تعتمد على إحضار البقوليات والخضار "المُثلجة" على مدار الأسبوع، في حين أنَّها تسمح بإدخال قطعةٍ واحدة من الدجاج لكل أسيرة، وقطعةٍ من اللحم بتقدير يومٍ واحد في الأسبوع. وتبقى هذه القائمة على محطة القبول والمنع، وربما العقاب في أحيانٍ كثيرة، وهذا يعني أنَّ بعض الأنواع التي قد يُسمح بإدخالها هذا الأسبوع، قد تُمنَع في أسبوعٍ آخر، ناهيك عن تقليص الكميات المسموحة، حيث تسمح الإدارة بإدخال ما يغطي 5% من كفاية الأسيرات.


اقرأ أيضًا: في غرف الأسيرات: ماذا تعكس مرآة الزنزانة؟ [2]


تتوزَّع المهمات داخل الغرفة بين الأسيرات، فبعد استلام الأغراض من قبل "الخوليا"، تأتي مهمة حفظ الأغراض والتأكد من تاريخ انتهاء الصلاحية، وفحص جميع العلب لترتيب أولوية الطبخ. بعد الانتهاء من هذه المهمات الروتينية تأتي المهمة الكبرى وهي "من سيطبخ لنا اليوم؟". في العادة، لا تتوقف مهمة الطبخ على أسيرة بعينها، لكن تتميز بعض الأسيرات بنفس طيب عند تحضير الطعام.

 لذلك يقع الاختيار عليهن في مراتٍ كثيرة لنيلِ هذا الشرف. وبالطبع فإنَّ كلَّ من الغرفة يحرص على نيل رضا "الشيف"، ودعمها بشكلٍ متواصل، لتتمكن من صنع أطباقٍ "عجيبة" من موادٍ لا تكاد تكفي لإتمام أي وصفة كاملة. لكنَّ الحاجة أم الاختراع، فرغم كلِّ النقص والحرمان تُبدِع الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، في ابتكار وصفاتٍ جديدة، من الأكلات الفلسطينية ذاتها أو ما يشابهها، بعضها قد ينجح وبعضها الآخر قد يبوء بالفشل، لكن لا بأس في تناوله، فاللقمة بين جدران السجن عزيزةٌ جدًا.

مترٌ واحد يُسمَّى "مطبخًا"

IMG-20230730-WA0015.jpg
يحاولن الأسيرات الفلسطينيات الضغط على إدارة السجون لإدخال ما يشتهين وبعد أشهر من المحاولات يدخل صنف واحد 

"مطبخ" ربما هذه الكلمة فيها نوع من المبالغة لما يُمثِّل مكان الطبخ في غرفة السجن، ففي زاوية الغرفة ستجد مساحة لا تتجاوز المتر الواحد، والتي تُستخدم لإتمام كل مراحل الطبخ بدءًا من غسل المستلزمات وتقطيعها وطبخها وتوزيعها في الأطباق. وفيما يتعلق بالأدوات المتخصصة من ملاعق و"طناجر" وأدوات سكب الطعام، فكلُّها ممنوعة بشكلٍ مباشر.

 وهذا يعني أنَّ الموافقة الوحيدة لإدخال بعض هذه الأدوات هي شراؤها من حساب الأسيرات الخاص بعد أن يتم توفيرها في كانتينا السجن. في المقابل، هناك أدوات يُرفَض توفيرها لأسبابٍ أمنية، مثل "السكاكين" وبعض الأدوات الحادة، ولتعويض هذا النقص تلجأ الأسيرات إلى استخدام الحواف الحادة للمعلبات المفتوحة من أجل تقطيع الخضراوات والدجاج، وكل ما يمكن أن يُصنع باستخدام السكين.

ماذا عن الفرن؟! فالوضع الطبيعي أنَّه يأخذ مساحة جيدة من المطبخ، فأين مكانه؟! سألتُ آمنة اشتيه هذا السؤال وهي تبادلني ضحكة مفادها "اصبري مازال هناك الكثير من المفاجآت". حسنًا، في الحقيقة لا يوجد فرن ولا حتَّى محضر طعام كما نتخيل. في كل غرفة يوجد ما يُسمَّى "البلاطة"، وهي عبارة عن جهاز صغير يعمل بحرارةٍ دون لهب أو ما يُسمى "الحرارة الناعمة".


اقرأ أيضًا: نور بدر: حكايا الأسيرات أجبرتني التجرد من موضوعية البحث العلمي


 يشغل قبل وقت من تحضير الطعام وانتظار وصوله إلى درجة جيدة تُناسب وضع الطعام عليه. يستغرق الطعام وقتًا طويلًا لينضج، فبين فينةٍ وأخرى تنخفض حرارة "البلاطة" بضع دقائق، ثم تعود من جديد بحرارةٍ أعلى. وإذا ما قررت الأسيرات أن يعشنَ مغامرة الشواء، فإنَّهنَّ يضعن الطعام في طبقٍ حديدي، ويَقلبنَ هذه البلاطة لتنتقل الحرارة من الأعلى نحو الطبق الموضوع.

وأمَّا عن طريقة حفظ الأطعمة، ففي كلِّ قسم يوجد ثلاجتان، وثلاث مُجمِّدات طعام، بحيث يخصص رف واحد لكل غرفة، تشترك في هذا الرف الأسيرات الجالسات مع بعضهن. وتعين مسؤولة عن كلِّ ثلاجة، تُفتح الثلاجات فقط في حضرتها، وترشد الأسيرات الجديدات إلى مكانهن المخصص في الثلاجة لحفظ أغراضهن وتجنب خلط الحاجيات مع رفوف أخرى.

الشيف وإبداعه

يمكن أن يحدد نوع الطعام الذي سيُطبخ على الغذاء بناءً على رغبة الأسيرات، فتحضر "الشيف" المواد المتوفرة وتبدأ عملية الطبخ بمساعدة بعض الأسيرات. ورغم كل المواد الناقصة إلَا أن الإبداع سيد المائدة، وما لا يخطر على بالك يمكن أن يُصنع منه طبقًا شهيًا. كأن يتحوَّل البصل إلى صنفٍ من الحلويات الشهية. وبقايا الخبز إلى حلوى "القطايف".

ما بين المسموح والممنوع، يُحدد يوميًا ثلاث وجبات لكل أسيرة داخل الغرفة، ويتفق على صنف الطعام بين الأسيرات على أساس المواد المتوفرة لديهن، فمثلًا على وجبة الفطور يتم توفير نوعين من الخضار الخيار والبندورة مع علبة لبن وقطعة خبز، وعلى الغذاء يختار نوع واحد من الخضراوات، والتي غالبًا ما تكون "مُجمّدة"، وأمَّا وجبة العشاء فتعتمد على المتوفر من المقبلات أو الأطعمة الخفيفة؛ كالحمص أو البيض المسلوق بجانبه نوع من الخضار.

يمكن أن يحدد نوع الطعام الذي سيُطبخ على الغذاء بناءً على رغبة الأسيرات، فتحضر "الشيف" المواد المتوفرة وتبدأ عملية الطبخ بمساعدة بعض الأسيرات. ورغم كل المواد الناقصة إلَا أن الإبداع سيد المائدة، وما لا يخطر على بالك يمكن أن يُصنع منه طبقًا شهيًا. كأن يتحوَّل البصل إلى صنفٍ من الحلويات الشهية. وبقايا الخبز إلى حلوى "القطايف".

حرمانٌ من خيراتِ البلاد

IMG-20230730-WA0014.jpg
إن الأسيرات الفلسطينيات مبدعات في تطويع المكونات الموجودة لديهن لاختراع أصناف يريدن تذوقها

ماذا عن "الكيف"؟! كيف تصنع الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، المزاج المرتبط بالقهوة والكابتشينو؟! كان لا بُدَّ أن ْ أُشبِعَ فضولي، فهل يا تُرى تصنَّف هذه المشروبات في قائمة الممنوعات التي تحددها إدارة السجون الإسرائيلية أيضًا، كالكثير من الأطعمة؟! أجابتني آمنة وهي تعيد شريط الذاكرة نحو الكانتينا: "أجل، كل هذه المشروبات ترفض إدارة السجن توفيرها، لذلك نلجأ إلى شرائها من حسابنا الخاص وبأسعار مرتفعة. ليس هذا فحسب حتَّى المياه التي نشربُها، نشتريها أيضًا على حسابِنا الخاص".

طال حديثنُا في الممنوعات، فكلَّما هممتُ بسؤال آمنة اشتيه عن صنفٍ من الطعام، لا بُدَّ أن يكون فيه نوعٌ من المنع. فلكَ أن تتخيل عزيزي القارئ أن حفَّارة الكوسا والباذنجان ممنوعة في السجن! حسنًا، ماذا عن السبانخ وورق العنب؟! هذه الأكلات الفلسطينية حتَّى النخاع، كيف تدخل لكنَّ؟َ! أجابتني آمنة بهدوء المُعتاد: "ببساطة إنه ممنوع".

تتفنن إدارة السجون الإسرائيلية بعقاب الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، من خلال حرمانهنَّ من تناول أطعمة تلامس الروح الفلسطينية، كأنْ تشتهي إحداهنَّ فاكهة الجوافة، هذه الفاكهة التي كبُرتْ بين أشجارها وربَّما زرعت ثمارها بيديها، ثم يأتي يوم وتُحرَم من تناولِها. أو أن تمنع الإدارة إدخال "الملوخية الخضراء" هل يمكن أن تدرك ارتباط الفلسطينية بهذا الطعام؟!

تتفنن إدارة السجون الإسرائيلية بعقاب الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، من خلال حرمانهنَّ من تناول أطعمة تلامس الروح الفلسطينية، كأنْ تشتهي إحداهنَّ فاكهة الجوافة، هذه الفاكهة التي كبُرتْ بين أشجارها وربَّما زرعت ثمارها بيديها، ثم يأتي يوم وتُحرَم من تناولِها. أو أن تمنع الإدارة إدخال "الملوخية الخضراء" هل يمكن أن تدرك ارتباط الفلسطينية بهذا الطعام؟!

فلا يمكن أن يخلو أسبوع في أي بيتٍ دون أن تكون هذه "الملكة الخضراء" حاضرة على المائدة. يتعمَّد الاحتلال سرقة فرحة الأسيرات للاحتفالِ في أي مناسبة، فيمنع إدخال أي مادة من مواد صنع الحلويات كالدقيق والفانيلا والبيكنج باودر. ورغم هذا القهر، تلجأ الأسيرات لصنع أطباق تحت شعار "الحلويات" لينزعن فرحةً يتيمة من عيون السجَّان.


اقرأ أيضًا: عندك سفرية: رحلة الأسيرة على جمر البوسطة


ماذا إذا اشتهتْ النفس شيئًا يا آمنة؟! لا يوجد شيء اسمه "خطر على بالي" أو "نفسي في أكلة معينة" الممنوع يبقى ممنوع، لكن في بعض الحالات تلجأ الأسيرات إلى المُطالبة الجماعية لأشهرٍ طويلة، لتوفير نوعٍ معين من الطعام، أو الفواكه. تحدِّثني آمنة في هذا قائلةً: "في أحد المرات كانت مطالبُنا حثيثة لتوفير الموز، واستغرق الأمر وقتًا طويلًا للسَّماح بإدخاله. وفي مرةٍ أخرى توفر الرُّمان.

كان وجوده بمنزلة ذهبٍ أحمر بين الأسيرات، حتَّى أن هناك أسيرة تفاجأت عندما تذوقته لِتعبَّر عن فرحتِها: يا الله، هذا طعم رُمان!!". فمنذ ثمانِ سنوات لم تتذوق هذه الأسيرة فاكهة الرُّمان. وفي المرة الوحيدة التي سمحت الإدارة بإدخال ورق العنب، تذوقتُه الأسيرات بدموع العينين قهرًا وشوقًا لهذا الطبق.

لم يكن هذا الحوار سهلًا، لقد آتى بسؤلِه وجعًا ونحن نعود بذاكرتِنا، لتتحولَ الأشياء العادية التي نراها كلّ يوم إلى أُمنياتٍ مدفونة تحت حجة "المنع الأمني". رائحةُ الزيتون، كوبٌ من الشاي أمام البحر و كعكةٍ من كعك العيد، مع صوتِ الضحكات ونحن نلتفُّ حول أقراص الزعتر الأخضر. فكلُّ هذه "العاديات" أصبحتْ حلمًا يُخال في عيون الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال إلى ما بعد الحرية العنقاء.