"الفقدة"، لم أكن وقتها أعلم تحديدًا ما تعنيه هذه الكلمة، ولكن ما أذكره، الطاولة الكبيرة التي كانت تعج بأطباق الطعام على الرغم من أنه ليس وقت غداء، والطبل والغناء "إمو يا إمو يخليله إمو .. سبع كناين تعبر على إمو"، والكثير من الهدايا والعروس وجميع النسوة اللواتي كن متألقات كأننا في فرح، مع أن هذا الحدث كان في بيت متواضع".
لم يكن هذا وصفًا لأحد مشاهد باب الحارة، بل هي "الفقدة" النابلسية، فما قصتها؟
يمكن تعريف فقدة العروس أو المخطوبة باعتبارها واحدة من أشكال التكافل الاجتماعي، إذ تقوم النساء من طرف العريس بعد عقد القران بفترة بزيارة العروس، والنساء هنا تشمل جميع قريبات العريس، ابتداءً من أمه وعماته وخالاته وصولًا إلى زوجات أعمامه وأخواله وبناتهن، وتحمل كل منهن هدية في يدها للعروس على وجه الخصوص ، وتقام هذه المراسم بعد أسبوع أو اثنين -على الأكثر- من خطوبتها، إذ يتم التعارف من خلالها على بعضهم بعضًا، ويعتبر التأخر على العروس في الفقدة عيبًا بحق العريس وأهله.
العادات في نابلس "الفقدة مثالًا"
وعن أصل كلمة فقدة، ذكر الباحث هاني العزيزي في كتابه "صفحات نابلسية": أن اختيار مسمى "فقدة" جاء من "تفقد" الخطيب لخطيبته أو "يفتقدها"، خصوصًا أن العريس لم يكن يرَ العروس قديمًا إلى يوم الزفاف، ويذكرها بإرسال هذه الهدايا إليها.
ويذكر أن فقدة المخطوبة التي اشتهر بها أهل نابلس قد تكون معروفة في مدن فلسطينية أخرى، ولكن ضمن طقوس وأعراف ومسميات أخرى، ففي مدينة جنين تسمى "المطلية" ، والتي لها ذات تعريف الفقدة ، ولكن بطقوس تختلف بعض الشيء.
كلمة "فقدة" في نابلس لا تخص وترتبط بالمخطوبة فقط، بل ترتبط بأشخاص ومناسبات دينية واجتماعية أخرى في المجتمع، فهناك "فقدة رمضان" التي يتفقد فيها الأب وأولاده "بناته المتزوجات" في شهر رمضان، كشكل خاص من صلة الرحم، ويهدي لهن الفواكه والحلويات أو مبلغًا من المال في هذه المناسبة، وأحيانًا هدية ثمينة لبيتها، وكذلك "فقدة العروس" التي يزور فيها أهل العروس ابنتهم بعد زواجها بأسبوع ويقدمون لها طبق حلويات مزين، على سبيل المثال "سدر كنافة أو البقلاوة"، وكذلك يحملون لها الهدايا التي تخص المنزل.
في مقابلة لنا مع إحدى المخطوبات تقول ليلى: "بدأنا بتجهيز المنزل وتحضير أشهى أنواع الحلويات ،مثل الهريسة والتمرية والمعمول وغيرها من الحلويات الفلسطينية الشهية إلى جانب مقبلات وأطباق فلسطينية معروفة، و في اليوم التالي، يوم استقبال أهل العريس وأقاربه، حضرت نفسي جيدًا وارتديت أجمل الملابس، وتزيّنت وعطرت نفسي بالمسك الفواح.
تكمل: "استقبلنا أقارب العريس، جاءت أمه وأخواته الثلاثة وعماته وخالاته وجداته ونساء أخريات من طرف العريس ، تبادلنا الأحاديث ورقصنا على الأغاني الشامية القديمة مثل "ومن الشباك لارميلك حالي... ويا مال الشام ، وتناولنا من الحلويات التي أعددناها، وأيضًا من التي أحضروها معهم.
وعندما انتهت السهرة الجميلة التي أمضينا فيها وقتًا ممتعًا، بدأ وقت تقديم الهدايا .. جميع النسوة كن يحملن الهدايا وكانت أم العريس هي المسؤولة عن تقديمها ، حيث وقفت أم العريس وبجانبها جميع الهدايا وبدأت بتقديم هدية تلو الأخرى، مع ذكر اسم صاحبها".
اقرأ أيضًا: الحليّ في الموروث الفلسطيني: وظائف اجتماعية وحمولات تاريخية
الحاجة الخمسينية أم أيمن تقول: حضرت عشرات " الفقدات " منذ أن كنت عزباء في بيت والدي، أذهب للفقدة الخاصة بشباب عائلتنا بصحبة أمي وصولا ً إلى أن أصبحت أنا أماً و أخطب لأبنائي وأستقبل أهل خاطبي بناتي".
وتضيف: "الفقدة فرصة لإدخال الفرح والبهجة على قلب العروسة وكذلك لتعارف نساء العائلتين "أهل العروس والعريس"، اضافة إلى مساندة العروس في إتمام جهازها، فهناك الكثير من العرائس عند الفقدة تملأ حقيبة كاملة من الجهاز الخاص بها من ملابس وعطور واكسسوارات، وهذا يعتمد على حجم العائلة وعدد الأفراد القادمين لزيارة العروس".
عادة فلسطينية لا تندثر
تتأثر الفقدة بالظروف السائدة والتوقيت الذي تتم به، فكثير من الفقدات قد تلتغي لظرف سياسي مثل اجتياح أو اغلاق للطرق بسبب الاحتلال مثلًا، وفي هذا السياق تقول السيدة صفاء بكر : أن وقت خطبتها تصادف وشهر رمضان المبارك، وبالتالي فإن فقدتها كانت في ذات الفترة، وهذا أثّر على بعض طقوس الفقدة المتعارف عليها في نابلس والتي يعتبر من أهمها اكرام الضيوف بالطعام التقليدي كالتبولة ، والفتوش، وحراق بإصبعه، والفطائر ، والعصائر وغيرها ، إلا أن الفقدة الخاصة بي اقتصرت على الحلويات فقط بسبب أن موعدها يكون في رمضان بعد طعام الإفطار .
تضيف: "في الفقدة، تقوم النساء بنزع الشارب أو الحجاب وتكون النساء في كامل زينتهن، كأنهن ذاهبات إلى حفلة، وليس العروس وحسب.، وتعتبر الفقدة فرصة للبحث عن عروس في حال كانت إحدى الحاضرات تبحث عن عروس لابنها أو قريبها".
تتابع صفاء: "يعتبر عدم قيام أهل العريس بفقدة العروس "عيبًا" ويمس بأخلاقهم وكرمهم".
اقرأ أيضًا: من شجن الذاكرة: طقوس التراث في حكايا أم مبارك
كم هو جميل استمرار هذه العادة المتوراثة من الأجداد عبر السنين، حيث أن استمرار مثل هذه العادات يزيد من الترابط الاجتماعي والأسري، وعادة جلب الهدايا، دليل على كرم أهل العريس تجاه أهل العروس وتقديرهم لها.