لا بد من التحذير قبل البدء أن هذه ليست دعوة للتشاؤم، لكنها مكاشفة، ربما لا يكون هذا وقتها إلا أن بعض الكلام إذا لم يُقل الآن فلن يُقال أبدًا، فوجبَ تنبيه المتلقي ليتلافى المواضيع التي لا تناسبه حاليًا إن لم يكن مستعدًا لتسليط الضوء على بعض سلبيات أواننا العصيب.
أيام مرت على الكارثة، فهل مرت الكارثة؟ وكيف كان تعاطينا معها؟ هذا النوع من الأزمات يوقِع المعنيين ومن حولهم في شدات نفسية تتراوح درجاتها بين الضعف والقوة، والزلزال الذي ضرب المنطقة أكبرُ من مجرد أزمة، فهو عامّ، وأغلب من يريدون المساعدة معنيون بالبلاء لعموميته مما يعني أن المصيبة لامست الجميع وصعّبت الحلول.
الاضطراب النفسي المرافق لهذه الحالات هو اضطراب ما بعد الصدمة ptsd: اضطراب قلق ناتج عن أحداث مرهقة أو مخيفة أو مؤلمة ويتميز بذكريات متكررة للحدث الصادم الساحق. فانتهاء الحدث لا يعني أن المصاب تجاوزَه، والبعض قد يمرون بالاضطراب دون تدخّلٍ مساعدٍ وتمضي بهم الحياة وتزول الشدة دون زوال آثارها، ففي هذا الحدث أو في سابقاته ربما مر أكثريتنا بالاضطراب بالفعل، خاصة أن منطقتنا العربية كريمة بالأحداث الضاغطة بشتى أنواعها.
أعراض اضطراب ما بعد الصدمة
| تكرار تذكر الصدمة وأحداثها: فكلما خلا الإنسان بنفسه، وحتى إن لم يخلُ، استحضرَ ما حدث، العالم ماضٍ وهو في مكانه يجترّ صدمته، يحضر في زمانه جسديًا، أما روحه وتركيزه فعالقان في لحظة الكارثة، والمفارقة أن المواقف الضاغطة غالبًا لا تكون طويلة زمنيًا، لكنها تستحوذ على كامل وقت المصاب بالاضطراب مهما قصرت.
| أحلام مزعجة حول الصدمة: الاحتماء بالنوم لا يعطي النتيجة المرجوَة، فبعد مكابدة الأرق والنوم تلاحق الكوابيس المصاب مركزة على جزئية معينة أو مهوّلة الحدث عشرات المرات مما يجعل النوم غير ذي جدوى.
| آلام وضغوط نفسية عند مرور ذكرى الصدمة: فإن مرَّ المُصاب بأي غرض أو عاش ثانيةً أي نشاط كان يمارسه في فترة الصدمة يولِّد ذلك عنده نفس شعور الذعر الذي عاشَه عندها وكأن الكارثة تحدث الآن، فيتجنب السماع أو التحدث عن الحادثة، ولأن تعافي المتعرض للموقف الضاغط يتطلب أن يبوح بما عاشَه كي يستطيع حلَه وتخطيه فإن عدم قدرته على التحدث عن الأمر قد تؤدي إلى تأخر تعافيه. ويتعلق بهذا العَرَض تجنّبُ الشخص لأي فكرة أو إحساس أو نشاط اقترن بفترة الصدمة.
اقرأ أيضًا: العلاج النفسي لأطفال ما بعد الصدمة
والأمثلة في حالة الزلزال كثيرة، فالبعض يرتعدون من الوقت الذي وقع فيه والذي توقفت عنده ساعاتهم مشيرة للحظة المَهولة (الرابعة والربع)، آخرون يرفضون أن يأووا إلى النوم خوفَ وقوع خطر أثناءه نظرًا لأن الزلزال حدث أثناء غفوتهم، البعض يعجزون عن العودة إلى بيوتهم، بالذات مَن فقدوا أحدًا هناك أو عجزوا عن إنقاذه، أي تفصيل مقترن يمكنه إثارة الهلع ذاته فتغدو لدى الفرد حصيلة من المحظورات التي يرفض استحضارها ويتألم بذكرها، وإن تفاقم ذلك يتحول إلى فقدان ذاكرة نفسي المنشأ.
| أعراض جسدية: ومن جملة الأعراض: الأرق، صعوبات النوم والتركيز، الاستجابات الحسية المبالغ بها… إلخ. واللافت أن عمومية البلاء وانتشار مشاهده الأليمة قادرة على إشعار غير المعنيين ببعض الأعراض حتى إن لم يسكنوا المناطق المتأذية. يستوجب الاضطراب دعمًا نفسيًا متخصصًا، وربما لا يندر المختصون، لكنني أحسب المشكلة كامنة في رفض المتضررين للعلاج إما لزهدهم بالحياة بعد الزلزال أو لشعورهم بالذنب إن كانوا الناجين الوحيدين.
تأويلات الناس
الزلزال خطب جلل تناوله الناس بالتحليل، وذلك ليس بحد ذاته عيبًا، فمرة ثالثة، البلاء عام، ولا بد من تنوع ردود الفعل حوله فيقرؤه كلّ من زاويته وحسب سنّه واستيعابه ودراسته ومدى عاطفيته أو عقلانيته.
وتكثر التأويلات بكثرة المأوّلين: ابتلاء واختبار، عقوبة، رفع درجات، وليس المقصد تخطئة أي قول، فلست المخوَلة لذلك، لكن التفسيرات تخبرنا عن رفض عقولنا للمبهمات وسعيها لشرحها للخلاص من التعب الناجم عن الغموض.
الزلزال خطب جلل تناوله الناس بالتحليل، وذلك ليس بحد ذاته عيبًا، فمرة ثالثة، البلاء عام، ولا بد من تنوع ردود الفعل حوله فيقرؤه كلّ من زاويته وحسب سنّه واستيعابه ودراسته ومدى عاطفيته أو عقلانيته.
حتى الإشاعات المتنبئة بزلازل أخرى، إن لم تقصد حصد التفاعل فهي محاولات بشرية لكسر حلقة الجهل وللادعاء أن ما نقدر على توقعه غيرُ مخيف، والزلزال بحد ذاته يبطل ادعاءهم، فقد وقع ولم يستطع أحد أخذ حذره مسبقًا ولن يستطيع، إلا أنها نفس بشرية تحاول طمأنة ذاتها بأن ما حدث مع الآخرين لن يحدث معها.
وليس بعيدًا عن التفسيرات فإن محاولة الناس لاسترداد الوضع الطبيعي عمّتها الفوضى أيضًا، فكثيرون جنّدوا أنفسهم لتخوين مَن لم يتكلم أو لم يتوقف عن ممارسة حياته، وكثيرون جنّدوا أنفسهم لانتقاد مَن يلاحقون أفعال الناس، فصرنا أمام لغط وتلاسن وما ذاك إلا لعظمة المصاب والحيرة إزاء التصرف الصحيح.
ما السبب وراء ضعف التضامن؟
ولعلنا بعد مرور أيام يجب أن نكف عن ملاحقة الآخرين، مُستثنيةً المشاهير والصفحات العامة إذا سخروا أو تعمدوا الترزق من الفيديوهات والحكايات المحزنة. وذلك ليس لسير عجلة الحياة فحسب، بل لأنه من الصعب فرض أي شعور على أي شخص ما لم يمس ذلك قلبه، وأتحاشى تسمية ذلك بقسوة القلب، خاصة إن عرفت أن التبلد الانفعالي جزء من استجابات البشر النفسية للحوادث إن كانوا مُشبعين قبلَه بالمواقف الضاغطة، هذا عند الحديث عن سكان المناطق نفسها ممن لم يتأذوا.
أما إن تحدثنا عن قلة تعاطف سكان المناطق الأخرى فنحن أمام أمرين، الأول أنه من المُثبَت أنه لا يشعر بالألم سوى صاحبه، ليس لسوء الآخرين، لكن معروفٌ أنه من الصعب على من لم يَخض الأمر أن يفهم حيثياته، بعض من لم يعبروا بريئون لا يضمرون الشر لكنهم مشغولون بتكاليف حياتهم فإن انتبهوا للأحداث العامة تأثروا بالقدر المعقول ودعوا للمتضررين.
اقرأ أيضًا: الأعراض والمسببات وبرتوكول العلاج
وكلنا أحيانًا نتجنب نشرات الأخبار لازدحامها بمصائب تعطّلنا نفسيًا مع عجزنا عن التأثير فيها، ولا تستهينوا بصعوبة إيذاء الصحة النفسية وتبعات ذلك على سير حياة الأفراد، فليس شرطًا لنعتبُر فلانًا إنسانيًا أن نجبره على تغميس نفسه في مصيبة وندفعه للانهيار ونشعره بالذنب، علينا تذكر أن الآخرين ليسوا خصومنا، ثم إننا لا نملك الرفاهية والوقت للوم، انشغالنا بتقديم المعونة وتسليمُنا بأن مشاكلنا تخصنا أدعى للإنجاز، ولنحسم الجدل فالمتعاطفون أكثر من معاكسيهم ولا أرى طائلًا من ملاحقة السلبيين وكأنه لا يشغلنا سواهم!
ومن جهة أخرى، فصحيح أن مواقع التواصل أصبحت وسائل رسمية لإعلان التعاطف لكننا يجب ألا ننجرف كثيرًا وراء ذلك، فلعل من لم ينشر كان منشغلًا بمساعدة فعلية على الأرض مثلًا، هذه الوسائل قامت بالدورين السلبي والإيجابي خلال الأزمة، فلا داعي لتضخيم سلبياتها بالهوس بمطاردة فلان وفلانة لنتأكد هل هم في صفنا أم لا، وبالطبع لا يمنع هذا أن نتذكر المواقف المشرفة الواضحة والسيئة الواضحة لنعرف لاحقًا كيف ننظر لأصحابها، إنما دون مبالغة.
اقرأ أيضًا: الاحتراق النفسي: تعريفه وأسبابه والتعافي منه
ولا ننسى ذكر الجدالات حول السرقات والمساعدات وسوء التنظيم وكون الكثيرين منكوبين قبل الكارثة أصلًا، الجدالات كلها ردة فعل على حدث لا يمكن تجاوزه، ولا مشكلة في الآراء شرطَ ألّا تنصب الجهود على تحميل الذنب واللوم والانجرار لإخراج الأحقاد وتصفية الحسابات بدلًا من العمل أو الصمت على الأقل.
نحتاج وقتًا للإحاطة بكافة التفاصيل ووقتًا أطول للتعافي، خاصة إن أقنعنا أنفسنا أنه لا يحق لنا، لكن الحياة لا تحتمل المزيد من المنهارين، فحسبُنا أن نحاول ألّا نكون منهم كيلا نصبح عبئاً ونسرق دون قصد حقوق المصابين بتلقي الانتباه والعلاج. لم أركز على نصف الكأس الفارغ سوى لنملأه بتلافي السلبيات لأن المصيبة عظيمة ولا مجال لتهويلها بإضافاتٍ تراكِم المشكلة وتصعّب حلها.