بنفسج

رمضان بلا سِنديانتي

الإثنين 28 مارس

أمسح دمعة دافئة، مفتقدةً سحورًا عائليًا يشتعل بعبق الإيمان والسكينة، أبتلع لقيمات باردة كحد السيف تقطِّع داخلي بلا رحمة، أجلس على سجادة السَحَر وأطلق سهام القدر إلى السماء، أن أعد لي زوجي يا رب. أدعو وأدعو بعد الفجر إلى طلوع الشمس، أنتظر فأصلي الضحى بدعواتي التي بدأتها من السَحَر، لا أفتر.

أغفو هاذيةً بدعواتي وأمانيّ، لأستقبل أول يوم رمضان لي في غيابه، هل يستوعب القلب غياب حبيب في الأسر أم هل يستوعب غيابه مع ظلم سجان محتل غاصب سلب الأرض وأهلها معًا؟! أفتقد رائحة منزلي الذي كنت أعيش فيه قصة ملكةٍ أسطورية، لا تتسع تلك الروايات العالمية لتصف سعادتها. ألمحه يعود لي بعصير التمر واللوز والقليل من الحمص والفلافل الخبز الساخن، أقترب لأضمه وأقول له كعادتي: "يسلمو إديك"، فلا أجده!

تشخصُ عيوني ويرتجف قلبي لما حدث للتو؛ لقد جاءت سكرت الواقع بالحق، رمضان يأتي وحيدًا هذا العام، يتيمًا.. يتركني أتّلمس الجبر ممن حولي فلا أجد.

كيف لمن ترك جنة الدنيا من أجل لقاء الله وجنة الآخرة، أن يكافئ بسجن عفن أسود متعفن، والله سبحانه تعهد أن جزاء الإحسان إحسانًا.

أفرد سجادة صلاة العصر، وأبكي كما لم أبكِ من قبل؛ لم أعد أرى تلك السجادة ولا موضع السجود على عكس قلبي الذي كان يرى كل شيء منذ البداية. كيف لأسير سار في طريق الحق بائعًا دنياه الجميلة، واهبًا زوجته وأطفاله لله، يقدم روحه رخيصةً ليعيد بوصلة الوطن لاتجاهها الصحيح أن يمكث في الأسير فوق بضع سنين. كيف لمن ترك جنة الدنيا من أجل لقاء الله وجنة الآخرة، أن يكافئ بسجن عفن أسود متعفن، والله سبحانه تعهد أن جزاء الإحسان إحسانًا.

لقد أخطأت الدنيا كلها ولم يخطئ قلبي، بحنان مسح الله عليه وأمَدَّني بما تمنيت، فما إن أنهيت صلاتي بالسلام، حتى كانت العصائر والخبز وما تمنيت أمامي، أرسلها الله مع أحد أقاربي ليوصل رسالةً واضحةً تقول: " إن الله لن يدعكِ تخافي ولا تحزني.. فأكملت في نفسي طمعًا بكرم الله"، ورده إلي يا رب؛ فأنت القائل لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك".

تعاني زوجات الأسرى من غياب تلك السنديانة التي تظل البيت وتحميه؛ تفتقد أبسط الأمور التي قد لا تعبر عنها الأقلام، ولا يستطيع وصفها أمهر الكتبة، ومتى كانت تلك المشاعر النبيلة لتوصَف، بل أن محاولات وصفها تجعل نورها السرمدي النوراني المقدس باهتة، فهذه الأرواح لن تهدأ إلا بعودة شقها، وسكناها، ومأواها!

تستعد تلك الفلسطينية الجميلة لاستقبال رمضان بلا زاد ولا متاع من الدنيا قليل؛ إنما هي معركة الدعاء التي تنتظرها كل عام ليقترب الوعد الحق، عرس الحرية الأعظم!

على الدفة الثانية من أبواب الرحمن، يجلس ذلك الأسير الصامد الطاهر، مرابطًا يرسل دعواته أيضًا، فقد تفترق الأجساد، ولكنها تلتقي على عتبات الدعاء تتذلل اللقاء الموعود "ألم تعدنا يا الله بالنصر إن صبرنا واستقمنا؛ يا رب قد فعلنا.. قد فعلنا..فأذن لنا بفرجك!

يمسح دمعته التي لا يخجل بها كباقي الرجال، وينتظر على أبواب الزنزانة أن يبدأ يومه الروتيني من كل شيء سوى من الأمل! يتذكر أطفاله وزوجته البهية التي لم تشتك يومًا غيابه، إنما كانت داعمًا ومؤيدًا بل ومادحًا بحسن السير والمسير.

يتساءل وهو الخالية معدته من كل شيء إلا من الكرامة: ماذا تسحر أطفالي؟ هل أحبتي في الخارج كانوا لهم عونًا وعوضًا، أم أن أطفالي يتمنون ما لا يجدون؟ تزورني الذكري في أول أيام الشهر المبارك، عندما أشاهد زينة رمضان تتلألأ على المنازل مشعرة بروحانية عجيبة رغم كونها جمادًا مضيئًا فقط!

أذكر جلستنا الطارئة المنعقدة قبل رمضان بأيام، لتحديد شكل الزينة في هذه السنة، في كل مرة كنت أربح الأصوات بنسبة 100% صوتي وصوته مجبرًا، يبدأ بالعمل الميداني الأنيق فنتباهى بجمالها أمام كل الحي، ونمضي سهرتنا تلك الليلة نتحدث عن بديع إنجازنا وروعته، وأبناؤنا على حافة الشرفة الصغيرة ينظرون بعيونهم البريئة التي تعكس لون الإضاءة لقد كانت حقًا تلك اللحظات هي جنة الله في الأرض، تهرب تلك الذكرى على حين غرة، وكأن تذكرتي لذلك العالم السعيد قد انتهت، أقول: "لن أضع الزينة حتى يضعها هو!"، ولكنني وضعتها بعد عامين تحت ضغط أولادي التعسفي.

لا بد من الاجتماع مع الأهل في رمضان، لا بد من القيام بكل ما كان يقوم به زوجي أثناء وجوده بيننا من دعوة رحمه للإفطار إلى تلبيه دعواتهم، وصدقة الفطر، وغيرها من الصدقات التي تتبعها دائما نفس الأمنيات أن نكون قد أدينا حق الله كاملًا، والتزمنا بجانبنا من الشرط، فقد استجبنا لله وآمنا به ليكون قريبًا مجيبًا لدعواتنا التي دعونا، سعادة غامرة لي ولأبنائي عندما نشعر رغم كل شيء أن روح زوجي معنا في كل ثانية، وأننا نصنع كل ما يحب وفوق ما يحب لنكون في كل يوم أقرب للقاء.

في أواخر رمضان، أربط الأحزمة، وأرفع حالة الطوارئ، فكلي أمل أن يكون عيدي هذا العيد عيدين؛ عيد الفطر وعيد الحرية، أكرر هذه الدعوة كل غروب، وأنتظر بكل يقين أن الله سيشرق شمس حريتنا قريبًا، فليست كل الأيام غروبًا فهذا ضد قوانين الطبيعة، صحيح أن رمضان هذا سيكون الرابع الذي أدعو فيه هذه الدعوة، وزوجي الذي أدعو له محكوم في الأسر مئتي عام، إلا أنني أعلم أن الذي فطر السموات والأرض قادر على أن يجيب دعوتي بغمضة عين.

إذن، فللتأخير حكمة خفية ستتجلى لي يومًا، فتكتمل الصورة لدينا، تلك الصورة التي سنتجاذب أطراف الحديث حول أحداثها معًا بإذن الله.