بنفسج

قصتي.. أسماء دروزة

الخميس 09 مارس

"حبيبتي يا ماما هدول هدية من بابا بعتلك إياهم من الجنة".. كنت أصفق بيدي الصغيرة حين آخذ الحلوى التي تجلبها أمي من أبي، لطالما انتظرت أن يباغتني ويأتي هو، كنت صغيرة جدًا حين رحل إلى دار الحق، حينما كبرت وعرفت غيابه، حاولت أمي أن تطبطب على قلبي المكلوم وتخبرني أنه في الجنة، لكنه الفقد بجرعاته المرّة التي ارتويت منها من ذلك اليوم ومازلت، وددت أن أروي له حكاياتي اليومية، أن يرى لما وصلت في حياتي العملية ولكن أمر الله نافذ.

أنا أسماء، ابنة الشهيد صلاح الدين دروزة؛ أفتح لكم دفتر ذكرياتي لأحدثكم عن الطفولة قليلًا، لصغر سني آنذاك، لا أذكر تفاصيل والدي، عرفته شكلًا وحفظت ملامحه من الصور، أما عن طبعه وصفاته فقد عرفتها من حكايات والدتي وجدي لوالدي وإخوتي الذين يكبرونني سنًا، أخبروني بلقب الأب الحنون والمقاتل الشرس، فقد كان نعم الأب الذي يحب أبنائه رغم اعتقالاته المستمرة التي تجبره على البعد عن عائلته. وأما عنه كمقاتلًا شرسًا، فقد دفع الكثير فداء وطنه وقضية أرضه، فأبعد عن الوطن لمدة عام تقريبًا، واعتقل حوالي 6 مرات، وإلى يومنا هذا أسير بين الناس لألتقي بمن عرف والدي ليخبرني عنه.

عند استشهاد والدي بتاريخ 25-7-2001 لم يكن عمري يتجاوز العام، هذا الحدث يصعب على الكبار استيعابه، فما بالكم بطفلة صغيرة مع كل يوم تكبر به تشعر بأن شيء في حياتها غير موجود، لقد ملأت رأس والدتي بتلك الأسئلة (أين والدي؟ لماذا هو غير موجود؟ هل سيعود؟..إلخ) لكنها كانت وما زالت تعطي كل ما لديها لكي لا أشعر بالنقصان، ملأت مكانها ومكان والدي.

إن أجمل العبارات وأوفاها وأعلاها لا تجزي والدتي مثقال ذرة، فإن كان أبي حاز بفضل الله شرف الموت في سبيل الله، فإن أمي قد عاشت في سبيل الله والثانية أصعب. فهي الصابرة الحنونة، حملت الأمانة وحدها بعد استشهاد والدي لستة أطفال، أكبرهم 14 عامًا وأصغرهم أنا 11 شهرًا. 

لا أعلم كيف مرت الليالي عليها، لكني أعلم أنها كانت طويلةً لا تنتهي، يصبّرها على وحدتها وطولها عهد قطعته بأن نحيا كرامًا، وأن لا يكون من بعد صلاح الدين إلا كل صلاح. فاللهم اكتب لها الأجر واجزها عنا خير الجزاء وأقر عينيها بنا.

أضع والدي نصب عيناي في كل خطوة، وحينما اخترت مشروع تخرجي ليكون فيلم يروي حياة فتاة عشرينية تحاول الإجابة عن السؤال الذي يراودها دائمًا عن سبب تصنيفها ضمن دوائر محددة سلبًا أم إيجابًا عند ذكر اسمها الثلاثي، بين الفخر بما وجدت نفسها عليه كونها ابنة شهيد وشكّل جزء مهم من حياتها، وما حققته هي وأنجزت على صعيدها الاجتماعي والعملي.

في بداية مرحلتي الجامعية، قررت أن أدخل تخصص الإعلام كي أروي قصتي للعالم كابنة شهيد، أحببت التخصص ووجدت نفسي فيه، حاولت بكل الإمكانيات التطوير من قدراتي، ولعل العلامة الفارقة في مسيرتي الأكاديمية تشكلت ملامحها جيدًا أثناء موقف حصل معي عند مقابلتي لدكتور مسؤول عن ملف التدريب والتبادل الطلابي، خلال المقابلة طرح علي الدكتور أسئلة ليست أكاديميه أو مهنية، بل بنكهة أمنية بعكس ما تم طرحه على الزميلات المنافسات، أسلوبه كان كفيلًا بجعلي أقف مع نفسي جيدًا في مواجهة السؤال الكبير، لماذا يتم حرماني من الفرص والمنح بل ووضع المعيقات أمام مسيرتي المهنية والأكاديمية، لأكتشف لاحقاً وبلا سبب أنني ابنه شهيد بلون سياسي لا يسر بعض الناظرين إليه. 

هذا السؤال كان مصدر إلهام ولبنة الفيلم الأساسية الذي بنيته للإجابة عليه.
المسير في الحياة دون الأحبة مرهق للغاية، ولكن الفقد يعلمنا الاستغناء، فلا تتعلق قلوبنا بغير الله، ثم تعلمنا أن الحياة واحدة وأن الاحباب كلهم إلى فراق فنحيا معهم اليوم كأن لا غدًا لهم!  ثم إن فقدنا ليس كغيرنا، فنحن موعودون بعد هذا الفقد بلقاء وشفاعة، لنا في هذه الدنيا الخير بصلاح والدنا اسماً وفعلًا ولنا في الآخرة شفاعة بإذن الله.

مرت عليّ ليال حالكة كنت أواسي نفسي وأردد قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فكلما أفكر، أجد أنَّ الله لا يبتلي أحدٍ بشيءٍ دون أن يلهمه القوة والصبر عليه فلا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، لن يبتليك بشيء يُفقِدك عقلك وصوابك، لن يجعل أقدارك أصعب من أن تتحمَّلها، امتحان الله دائمًا ما يكون على قدر صبرنا وقوة تحمُّلنا، هو العالم بشؤون عباده، ولن يُكلِّفنا برحمته ولطفه ما لا نطيق، أو ما لا نستطيع تجاوزه، الله أحنّ وأرحم من أن يُحمِّلنا ما لا نستطيع تحمُّله.

مواقف الحياة عديدة وبما أننا عائلة شهيد كنا نواجه تضييقات من الاحتلال؛ أذكر حينما تم اقتحام منزلنا لاعتقال أخي عز الدين وبعد انتهائهم من عملية التفتيش، كان الضابط يسأل باحثًا عن مكان وجود والدي، فأجابته أمي إن كنت تبحث عنه فاذهب واعتقله من المقبرة فأنتم قتلتموه.

ربما انتهت الحكاية التي أرويها لكم هنا، لكن الحياة مستمرة، ونظل نعاني ألم الفراق حتى تصعد الروح لخالقها، الحقيقة الوحيدة في الحياة أن جرح الفقد لا يلتئم، لكن بالفقد يتجلى معنى الحياة أكثر، فهو باب للتعرف على الباقي الذي لا يفنى، ومنه يدرك المرء مراد الله، فلا ينبغي لشعور الفقد أن يكون معيقًا عن الحياة والاستخلاف فيها، بل هو دافع لأن يمتد الجذر أكثر وتورق الأغصان حاملة الأثر إلى من بعدها فلا ينقطع ذكره وسيره. رحمة الله على والدي وكل شهداء فلسطين.