وكأننا في مشهد يعيدنا للانتفاضة الثانية، اشتباك مسلّح وشهيد، تجمع للنساء أمام ثلاجات الموتى أمام مستشفى رفيديا ربما، والجميع يبحث عن أم الشهيد، ما حالها؟ أهي بخير؟ إن كانت كذلك فجميعنا بخير أيضًا، أما إن كانت غير ذلك فنعلم حينها أن مهمتنا صعبة.
تفحصتها الآن جيدًا، ولكن من خلف شاشتي، شعرت أنها بخير، وأنني أيضًا بخير، لم أشعر بالعجز والانكسار كالعادة، بل أشعلت بي فتيلًا كاد أن ينطفئ. فما الذي اختلف في مرآنا لمشاهد أمهات الشهداء؟ وماذا علمتنا أم الشهيد اليوم؟
أنا وهبت إبراهيم للواحد الأحد وهبته لرسول الله وللأقصى... إبراهيم طخوه بس في مرة إبراهيم، كلكم إبراهيم وكلكم أولادي، وإبراهيم انتصر... انتصر الحمد لله."
| أولًا، أم الشهيد تتصدر المشهد: وهي في هذا حلقة وصل في مسيرة أمهات الشهداء الطويلة، ومتابعة لدورهن السياسي في استمرار عجلة النضال من أجل التحرير، أعادت أم إبراهيم مشاهد الذاكرة حيّة وهي تحمل ثقل قلبها ونعشه، وكأن الزمن يرجع للوراء، ويعيدنا لأم عامر أبوعيشة وهي تحمل نعش ابنها بعد أن اغتالته قوات الاحتلال في الخليل 2014.
| ثانيًا، التعبئة والتأطير: فعزيمة أم الشهيد مقال ثائر، وعيناها الثابتتان خطبة عصماء، وكلماتها وقود يسري في الجماهير، فكيف وهي تُحمّل رسالة إبراهيم للآلاف من بعده؟ إذ تقول: "أنا وهبت إبراهيم للواحد الأحد وهبته لرسول الله وللأقصى... إبراهيم طخوه بس في مرة إبراهيم، كلكم إبراهيم وكلكم أولادي، وإبراهيم انتصر... انتصر الحمد لله."
اقرأ أيضًا: عائلة بركات الخواجا: دفء العائلة تبدده جرافات الاحتلال
| ثالثًا، العُدة الحاضرة: عدة أم إبراهيم حاضرة؛ تعد زاد ولدها، تربيهِ وتَهبهِ، وإننا في مقامنا هذا لا نعلم ما مؤهلها العلمي، وما وظيفته، وهل ربته وفقًا لمناهج التربية الحديثة؟ ولكننا نلمس جيدًا حضور الوطن في هذه التربية، والوعي بماورائيات هذه التربية، لذلك هي اليوم تقف قوية ثابتة رابطة الجأش، لقد ربته من أجل هذه اللحظة، لكي يكون مقاومًا، وما مآل المقاوم بعد إلا الشهادة. يرسل إبراهيم لأمه رسالته الأخيرة، هل لأن روحها مذ كان صغيرًا تعيش فيه، تبث فيه حب الوطن، والجهاد في سبيله، لأن الشهادة أقصى ما تتمناه يا بني، أم ليخبرها أن بيعها قد ربح، وأن الوصل بينهما وإن طال فهو قصير؟
| رابعًا، الثبات الثبات: تثبت أم إبراهيم أنها على العهد. تقول وهبت ابني لله مذ كان سبع سنوات. رأته على عينها، لقد أصبح شابًا قويًا يافعًا، فهل تتراجع! أمنايتها كأمنيات كل أم، وهي معروفة ومحفوظة لنا جميعًا، ولعل الأمنيات تتضاءل قيمتها لو تم مقارنتها بالحب، وهو الذي يوهن ويضعف، فكم نتمنى قرب الحبيب ووصله، إلا أن أمنا آثرت الثبات عل العهد، ورضى رب العهد إذ قالت: "الله يرضى عليك عقد ما حبيتك وحبيتني ... وصاني ما أبكي عليه".
من يدعي أن أوسلو قد دجّنت الفلسطينيين، ودفنت روح المقاومة، وبرّدت ثأره على من عاداه. أم إبراهيم واحدة في معظم الأمهات، ولكن أم إبراهيم واعية لدورها، وتؤديه في أقصاه، تربية وتوعية وتعبئة وتثويرًا على كل من يحاول الاعتداء عليك واغتصاب أرضك!
| خامسًا ضفة العياش حيّة: أم إبراهيم اليوم بوصلة الجماهير، تدعو وهم يؤمنّون، ولماذا تبكي وقد أعدت نفسها وولدها لمثل هذا اليوم؟
من يدعي أن أوسلو قد دجّنت الفلسطينيين، ودفنت روح المقاومة، وبرّدت ثأره على من عاداه. أم إبراهيم واحدة في معظم الأمهات، ولكن أم إبراهيم واعية لدورها، وتؤديه في أقصاه، تربية وتوعية وتعبئة وتثويرًا على كل من يحاول الاعتداء عليك واغتصاب أرضك! الضفة حيّة ولن تموت؛ فهي شقيقة غزة في النضال، شعبنا واحد لم تثنه كل محاولات التقسيم الجغرافي، كما ولن تجدي فيه أي تقسيمات سياسية.