السبت 11 مارس
امض ولا تنظر خلفك .. أنا خلفك وخير معين لك.. أنا على العهد يا عبد الرحمن. سأظل كما عهدتني وفية لك ثابتة قوية انتظر رجعتك وكلي صبر وحب..".
هذه آخر كلماتي لزوجي عبد الرحمن، قلتها ودموعي تنساب محاولة كتم الغصة والتحلي بالقوة، فأنا جيشه الوحيد إن خذلته في تلك اللحظة لن ينتصر وأنا لا أرضى له الهزيمة أبدًا.
اسمي يقين فريد زيادة ٣١ عامًا، زوجة المهندس الأسير عبد الرحمن شتية من قرية سالم قضاء نابلس، لدينا ابنتان وولد. الكبيرة، أسمى المنى، تليها يافا، ومن ثم محمد.
ارتبطت بعبد الرحمن في عام ٢٠١٣ وبعدها ب ٦ أشهر اعتُقل وخاض فترتها إضراب الكرامه، ووصل مراحل خطيرة فيه من إغماء واحتمال أن ينهي الاضراب حياته والحمد لله مضى الأمر بسلامة وانتصار.
كنت أظن أن الإعتقال في تلك الفترة صعب جدًا عليّ، وأن فراق الخاطبين أصعب ما يكون، لأكتشف بعدها أن الاعتقال بعد الزواج وبوجود الأبناء أصعب بكثير، بل وكان كل مرة أصعب من سابقتها.
اعتقل عبد الرحمن بعد ارتباطي به ٤ مرات؛ عام ٢٠١٦ وعام ٢٠١٨ وعام ٢٠٢٠. وآخرها خلال هذا الشهر شهر آب/أغسطس من هذا العام ٢٠٢٢.
في اعتقاله عام ٢٠١٨ كنت حاملًا بابنتي الثانية يافا، وعندما خرج كان عمرها عامًا ونصف العام تقريبًا، وفي اعتقاله عام ٢٠٢٠ كان عمر ابني محمد ٥ شهور، وعندما خرج كان عمرة عام ونصف العام تقريبًا ليخلق غيابة خلال تلك الفترة فجوة بينه وبين أبنائه ليحتاجوا وقتًا حتى يعتادوا على وجود أب في حياتهم.
أما اعتقاله الأخير هذا، فكان مفاجئًا وصعبًا وثقيلًا جدًا.
كنا في السوق عائلة كاملة آمنة مطمئنة وبعدها افترق عنا لنصف ساعه فقط، كما قال لي ليتم مهمة تخص عمله، وأنا في تلك الأثناء سبقته إلى بيت أخي الذي كنا مدعين عنده على الغداء.
رن الهاتف بعد نصف ساعة وأُخبرت أن عبد الرحمن أنه تعرض للاعتقال على حاجز طيار، ولم يمض بعد على حريته ٦ أشهر.
في تلك اللحظة راودتني مئة فكرة يائسة واعترتني مشاعر ألم وقهر، ولكن كنت أعلم أن ما سأقوله الآن لزوجي سيظل معه طيلة فترة الاعتقال المجهولة حتى الآن.
تمالكت نفسي، ابتلعت الغصة، وشددت من همته وعزيمته وجددت معه العهد على الوفاء له والوقوف في ظهره مهما جرى.
أغلقت الهاتف وشعرت بأني سأنهار من البكار، ولكن ابنتي اسمى المنى ذات السبع أعوام كانت بجانبي تبكي بشكل هستيري وتصيح: " لا يا رب أرجوك ما ياخدوا بابا كمان مرة.. مين بدو يجبلي ويسويلي .. مين بدو ياخدني ع المدرسة .. يا رب لا ..!".
هذه ليست المرة الاولى التي أحاول فيها أن اتماسك لأجل ابنائي ومن أجل عبد الرحمن.
في الاعتقالات السابقة كانت وطئة الاعتقال شديدة أيضًا، لا أنسى في اعتقال عام ٢٠٢٠ ضربوني وضربوا زوجي بوحشية، وكل همي في تلك اللحظات كانت أن لا تستيقظ البنات لأن هذه اللحظات ستظل ملازمة لهم طيلة حياتهم .وبعد ذلك أحاول أن أصبر عبد الرحمن وأزيد من عزمه وأخفي دموعي وقهري حتى لا ينثني، ولطالما قال لي بعد الاعتقال أن كلماتي هذه كانت زادًأ ثباتًا وقوة له طيلة الاعتقال، يتزود منها كلما أحس باليأس.
كل مرة يكون الإعتقال أقسى من سابقه كما ذكرت سابقًا لأن ابنائي يصبحوا أكثر تعلق بوالدهم وأكثر حاجة له. أنا أحاول جاهدة أن اقوم بالدورين الأم والأب، أحاول أن أشبعهم عاطفيًا وأن أوفر لهم كل حاجاتهم ومتطلباتهم، ولكن بالنسبة لهم رنة مفاتيحة وهو عائد من العمل تعادل الدنيا وما فيها هي بمثابة إنذار لقدوم الفرح بحد ذاته، تاركين كل ما في يديهم ليرموا أنفسهم في حضنه.
كلما سألني أبنائي عن والدهم خلال اعتقاله، مثلًا: متى سيأتي بابا؟ لماذا أخذوه؟ احاول جاهدة أن أرسم في ذهنهم ضعف اليهود وقوة وشجاعة والدهم. وأبني عبر هذه الاسئلة قيمًا ومعاني لتظل معهم للأبد.
لطالما كنت ابنة أسير منذ طفولتي وحتى الجامعة، وأخت أسير من بعدها. كنت أرى حرقة أمي ولوعتها، وكلي فخر بها وهي مثلي الأعلى وعندما ارتبطت بعبد الرحمن ارتبطت عن دراية بما سأعيش. كنت أرى أمي، ولكن لم أكن أعلم مدى صعوبة الأمر حتى استشعرته بنفسي.
الوحدة والمسؤولية الكبيرة والشوق والألم والخوف مشاعر وأحمال ثقيلة تعيشها زوجة الأسير، ومع ذلك نقول الحمد لله الذي اصطفانا وكرمنا بأن نكون أهلًا لهذا الطريق، وكلنا صبر وتوكل على الله.
الله يرمي الصبر مع كل بلاء ويرسل لنا من يقوينا ويدعمنا فيه أبي وأمي أخوتي وأخواتي. أهل زوجي كلهم مساندين لي بعد الله والحمد لله.
أمر بلحظات صعبة لا تنتهي خلال فترة اعتقاله، أبرزها الاعتقال الإداري والانتظار والمجهول. وحرق الأعصاب هو بمثابة مخطط لتدمير الحياة، لا أنسى في فترة اعتقاله الأولى أثناء خطبتنا تأجل موعد زفافنا أربع مرات بسبب تجديد الإداري له قبل خروجه بساعات قليلة.
ذات مرة حكموه ١٨ شهرًا، كانت مدة طويلة ولكنها ستنتهي. أما عن الأفراح التي تكون ممزجة بالعبرات والغصات اللامتناهية.
رمضان الأعياد، أفراح أخوة عبد الرحمن وأخواته التي لم يحضر أيا منها في حياته. لحظة ولادتي لابنتي يافا وهو في السجن، لحظة مرض أحد الأبناء أو مرضي أنا شخصيًا ليصبح للمرض ثقل وألم مضاعف
لحظات كثيرة لا تننسى تشفى بلحظة الحرية، كذهاب الظمأ. آملين أن يظل الأجر إن شاء الله.