بنفسج

"أهل البلد".. حكايا ذاكرة جدتي

الثلاثاء 30 مايو

كانت أعين جدتي تتسع كلما رأت تلك الأسلحة الهجينة... الأسلحة التي تأبى التنحي جانبًا، والتي ترفض كل قواعد الإنسانية، أسلحة تبدو باردة لدرجة أن برودتها تُحس من مسافة بعيدة جدًا، وكأن هذه الأرض ترفض تدفئتها أو إعطاءها بعضًا من حرارتها... آهٍ كم تمنت جدتي لو أمكنها حفر قصتها وما تذكر منها على إحدى الحجارة التي كانت قد نفيت معها آنذاك!

فلم تعلم بعد بأننا قد وصلنا إلى زمن أصبح به الاحتفاظ بالذكريات أمرًا سهلًا، وكأن وقتها توقف عند آخر لحظة لها على عتبات البلاد... فلطالما شكت وطلبت من الحياة أن تنصفها بإبقاء لحظاتها بالبلاد صُلب ذاكرتها التي تكاد أن تطُرح منزوية مفقودة! فلم تلبث يومًا عن الدعاء فترجت وتمنت.. مع أن ما تجلى في الذاكرة ألم مرصوص، إلا أنها لم تقتنع بفكرة إخلاء ما تزاحم فيها بسبب الزهايمر! ولذلك لم تكف عن مجاهدة نفسها ما استطاعت كي تتذكر حتى آخر رمق، لم تكل أو تمل أبدًا كما شهدناها دائمًا...

ذاكرة جدتي

 

حدثتنا عن ذكراها، وفي كل مرة تدمع عينها كأنها تعيشه مجددًا، حتى أبت نفسي عاجزةً عن التخمين، فما هذه الدموع التي تشبه اللآليء الساقطة من ينبوع نقي! نقيٍ أي لا يجب أن يدنس إلا أنه اغتصب قصرًا! أتكون يا ترى دموع حزن يتخلله قهر الظلم! أم أنها دموع حنين تتوقد لهيبًا حاميًا، لهيبًا يتوعد لتلك الذاكرة الهزيلة ويمنعها من النسيان...

وها أنا حفيدتها الأصغر أكتب لها قصتها؛ كي لا تحفر على حجر أصبح بارداً مع برودة الأيام في بلاد الغرب وكي لا تدفن في أرض لا تنتمي لها، أكتب لآخر من شهد طقوس الأرض.. آخر من احتفظ بالمفتاح والأمل في صدره لا يفترقان، آخر من حن وسيحن لمرافقها وزقاقها... أدون في مذكرتي أشياء لا أستطيع تخيلها! أشياء أصبحت لي بمثابة إقامة دائمة.

حدثتنا عن ذكراها، وفي كل مرة تدمع عينها كأنها تعيشه مجددًا، حتى أبت نفسي عاجزةً عن التخمين، فما هذه الدموع التي تشبه اللآليء الساقطة من ينبوع نقي! نقيٍ أي لا يجب أن يدنس إلا أنه اغتصب قصرًا! أتكون يا ترى دموع حزن يتخلله قهر الظلم! أم أنها دموع حنين تتوقد لهيبًا حاميًا، لهيبًا يتوعد لتلك الذاكرة الهزيلة ويمنعها من النسيان...

وها أنا حفيدتها الأصغر أكتب لها قصتها؛ كي لا تحفر على حجر أصبح باردا ً مع برودة الأيام في بلاد الغرب وكي لا تدفن في أرض لا تنتمي لها، أكتب لآخر من شهد طقوس الأرض.. آخر من احتفظ بالمفتاح والأمل في صدره لا يفترقان، آخر من حن وسيحن لمرافقها وزقاقها... أدون في مذكرتي أشياء لا أستطيع تخيلها! أشياء أصبحت لي بمثابة إقامة دائمة.

أبو سعيد: المحب للأرض

الجار الأكثر تعصبًا لأرضه.. كان يسهر أحيانًا طيلة الليل لحراستها وحراسة مزروعاته، خوفًا من أن تنقض عليها كائنات لعينة، لا أتكلم فقط عن الديدان أو الطيور ، بل أتكلم أيضا عن كائنات تجردت من إنسانيتها لحظة انتهاكها لهذه البلاد ، لم ينفك الجيران عن نصح أبو سعيد بوضع فزاعة للطيور بدلًا من مواجهة برد الليل القارس، إلا أنه لم يستمع لأي منهم يومًا!

فحب البلاد وتشبثه وانتماؤه لها كان كافيًا لتدفئته على حد قوله... غدر الإحتلال العم أبو سعيد وهو يستلقي منتظرًا هبوب نسمات الصباح وانتهاء قرصات الليل. رحمك الله يا عم، لطالما أرادت جدتي رؤيتك مستلقيًا كعادتك ولو لمرة واحدة أخيرة.. آمل أنك تنعم بدفءٍ تحت تراب الأرض وثناياها، دفء لم تمنحك إياه وأنت فوقها.

أم الأيسر: الفراق مر

وكان أحيانا "أهل هالبلد" (كما كانت تصفهم جدتي) يدعونها بِ "الحزينة أم الأيسر"، حيث غادر زوجها بعد حملها بأيسر مباشرة دون العودة... خرج مع بعض الرجال الذين يملكون حسًا للدفاع عن أراضيهم ضد المتجردين من الرحمة.. خرج في ليلتها ولم يعلم بأن زوجته تحمل له مولودًا سيجعل منه أبًا للمرة الأولى والأخيرة! لم تتزوج أم الأيسر بعد رحيله ولم تفكر بذلك مطلقًا.

 وكانت تفتعل المشاكل في حال طرح أيٍ من أهل البلدة لموضوع الزواج مرة أخرى ومن رجل غير أبو الأيسر.. آملةً أنه سيعود لها والنصر بين يديه ليوسم به أيسر ابنهما الأوحد. كما أنها أسمته أيسراً  تمنيًا منها أن تُيسر كل أمورهما، وأن يتيسر الدرب أمام زوجها الراحل للأبد.... رحمة الله عليكما، أرجو من الله ان تجتمعا معًا في جنات الخلد بسلام بعيدًا عن كل الشقاء والفراق الموحش.

أم علي: داية البلدة

"الداية" أم علي، قابلة البلدة آنذاك وكل بلدة محيطة بها، والحافظة لأسرارها وأسرار رجال البلدة في الكثير من الأحيان، فبسبب علاقاتها العديدة ووظيفتها داخل وخارج البلدة كان رجال و"مخاتير" البلد يسلمونها بعضًا من " المكاتيب " لايصالها للوجهة المطلوبة.
 
شهد الكثيرون شجاعة أم علي وذكاءها  الحاد في التحايل على الجنود المارين ، إلا أن آخر حيلة لها لم تنجح... ارتقت أم علي وهي في طريقها لايصال إحدى المكاتيب المهمة متحججةً بأن إحدى النساء ستلد في الحال. دُفنت أم علي وفي صدرها المفتاح والمكتوب ملتصقان... فليشهدا لك يا أم علي عند الله بإنك كنت مناضلة باسلة شجاعة.
"الداية" أم علي، قابلة البلدة آنذاك وكل بلدة محيطة بها، والحافظة لأسرارها وأسرار رجال البلدة في الكثير من الأحيان، فبسبب علاقاتها العديدة ووظيفتها داخل وخارج البلدة كان رجال و"مخاتير" البلد يسلمونها بعضًا من " المكاتيب " لايصالها للوجهة المطلوبة.
شهد الكثيرون شجاعة أم علي وذكاءها  الحاد في التحايل على الجنود المارين ، إلا أن آخر حيلة لها لم تنجح... ارتقت أم علي وهي في طريقها لايصال إحدى المكاتيب المهمة متحججةً بأن إحدى النساء ستلد في الحال. دُفنت أم علي وفي صدرها المفتاح والمكتوب ملتصقان... فليشهدا لك يا أم علي عند الله بإنك كنت مناضلة باسلة شجاعة  لا يفترق حب البلاد (المفتاح) والدفاع عنها بشيء (المكتوب).

الديوان

ديوان.jpg
الدايوان هو مكان لتجمع أهل البلدة في المناسبات المختلفة

مكان اجتمع فيه مخاتير البلدان جميعًا للإجماع على بعضٍ من الأمور التي تهتم بالبلاد حينها. واعتاد الديوان أيضًا على أن يكون مكانًا لتدريس فتيات البلدة اللواتي يصغرن عمر العاشرة.. كان الأولاد لا ينفكون عن التنصت ومحاولات اختلاس الأنظار المتكررة من خلف سلسلة الأحجار المرتفعة والمثبتة بالطينة، ولا تنفك الفتيات بدورهن عن الخجل أمامهم، فكانت معظمهن يلبسن أفضل ما لديهن من حلية وأثواب للتباهي أمامهم. حمل الديوان الكثير من الذكريات لجدتي مع رفيقاتها آنذاك. ذكريات لا يمكن تدوينها أو حمل بعض منها في كتبٍ وأوراقٍ عادية..

بيت العم فضل

بيت العم فضل، حاضن كل الشباب المقاتلين وأسلحتهم... أودع العم فضل قبل رحيله هذا البيت لمختار البلدة من أجل تكريسه لحماية الشباب الهاربين من الجنود، مؤكدًا له بأنه يريد ترك آخر بصمة له في الدفاع عن البلاد.. تمنى العم فضل استمرارية النضال إلا أنه لم يعد بيده أي خيار بعد استشهاد أولاده الثلاث.. فخرج ليحمي بناته الشابات وزوجته...


اقرأ أيضًا: المرأة الفلسطينية في رواية "أم سعد": أنا هون يمه!


نزلة الواد

مكان يدعى بِـ "نزلة الواد"، من أخطر الأماكن في البلدة، حيث اعتاد الشباب على إغلاقه أمام الجنود حينما كانوا يمرون منه للوصول إلى وجهتهم ، لم يكتفوا فقط بالمرور في كل مرة فحسب! بل كانوا يفتعلون العديد من المشاجرات التي تنتهي أحيانا بمقتل واستشهاد أحد شباب البلد..


اقرأ أيضًا: سونيا نمر: تاريخ فلسطين تختصره حكاية جدي


وحيد: البسالة الحقيقية

أصغر الشباب المناضلين وأكثرهم بسالة وآخرهم ارتقاءً... شهد الكثير على بسالته وغيرته على بلاده، فكان لا ينفك عن التحدث عن ضرورة حماية البلاد والتصدي للجنود بأي سيلة كانت، لدرجة أنه كان يحتمي بأي من جثث رفاقه المرتقين على الأرض قبله! وكان يطلب من الرجال معه أن يحتموا بجثته أن استشهد أثناء ضرب وإطلاق النار؛ معللًا ذاك بأنه يريد نفع البلاد حتى آخر رمق! فلم يعد يومًا قبل قتل جندي واحد على الأقل من الطرف المعادي. كنت شجاعًا يا وحيد، أعتقد بأن اسمك هذا هو سبب توسيمك بهذه البسالة، فأنت وحيدُ البسالة بين سطور من الرجال!

أم وحيد

 
هذه هي أرضُ كنعان! تنجب حكايات تخلد بالذاكرة حتى تؤرخ داخل كتب لتصبح يومًا قصص يقرؤها الكثيرون، البعض منهم منفي منذ زمن لا يتذكره، والبعض الآخر لا يعلم ما هي هذه البلاد... حكايات يوسم بعضها بالفخر والأخرى بالحسرة مختلطة بمشاعر لا يستطاع فك الشيفرة خاصتها! وحكايات لا يشعر بها البعض سوا أنها قصص وأهازيج..
 
كيف نستطيع اقامة هوية مزيفة في بلاد الغرب التي تنسينا  ما خلفت أحشاء البلاد؟ أيجعل منا هذا المنفى أشخاص أغراب! لا علم لي كيف يبدو هواء البلاد.. أهو مرٌ كمرارة هذه الحكايات! أم أنه حلو كحلاوة النهايات! تبدو المعيشة تحت الأرض أرغد من العيش فوقها؟

أم وحيد هي امرأة لا حيلة لها ولا قوة بعد الله إلا ابنها وحيد! لم يُعرف عنها شيء يومًا، فقد كانت لا تخرج من بيتها منذ وفاة زوجها في سن مبكرة، كرست حياتها لحماية ابنها وحيد، وكانت تريد أن تصرفه خارج البلاد ليصبح طبيبًا فيعود لها كي تفتخر بها ،  قُتلت أم وحيد في منزلها أثناء انقضاض الجنود اللعينين عليها أثناء تفتيشهم عن ابنها وحيد المطارد آنذاك! اكتشفت جثة أم وحيد ودفنت بعد يومين من قتلها.. لقد حصلت وابنك يا عزيزتي على تشريف أكثر من كونه طبيبًا وكونكِ أم طبيب البلدة! فلترقدا بسلام وفخر.

هذه هي أرضُ كنعان! تنجب حكايات تخلد بالذاكرة حتى تؤرخ داخل كتب لتصبح يومًا قصص يقرؤها الكثيرون، البعض منهم منفي منذ زمن لا يتذكره، والبعض الآخر لا يعلم ما هي هذه البلاد... حكايات يوسم بعضها بالفخر والأخرى بالحسرة مختلطة بمشاعر لا يستطاع فك الشيفرة خاصتها! وحكايات لا يشعر بها البعض سوا أنها قصص وأهازيج..
كيف نستطيع اقامة هوية مزيفة في بلاد الغرب التي تنسينا  ما خلفت أحشاء البلاد؟ أيجعل منا هذا المنفى أشخاص أغراب! لا علم لي كيف يبدو هواء البلاد.. أهو مرٌ كمرارة هذه الحكايات! أم أنه حلو كحلاوة النهايات! تبدو المعيشة تحت الأرض أرغد من العيش فوقها؟

اقرأ أيضًا: وديعة خرطبيل: 60 عامًا من النضال لأجل فلسطين


أما عن نفسي فأجيب: وأما عن هواء البلاد فهو تارة حلو وتارة مر وتارة حامض! حلو عند دفن آخر شهيد، ومر عند النظر في عيني أمه، وحامض عند الولع عليه والنظر إلى الأهازيج التي تكتب وكأننا نعرفه ونحن لا نحذو حذوه!

وأما عن ترابها، فأكتفي بقول إنه تراب ممزوج بحكايات الشهداء و بدموع أمهاتهم! بطموحهم وذكرياتهم! بل بزوجاتهم وأطفالهم.... وأما عن سمائها! فسماء بلادي لا تشابه أي سماء.. زرقتها جيداء وسواد ليلها شهلاء! ينظر إليها أطفالنا ليلًا ليختاروا نجمة باسم كل شهيد.. فسماء فلسطين سماء تتهوج بأماني أطفالها وحكاياتٌ زرقاء.