بوجه يختلطُ بالدماء، دخلت منزلها، تصارع نفسها منعاً للبكاء، مشهدٌ سقط معه قلب الأم، وتدافعت في عينيها العبرات، احتضنت فتاتها بشدة، اعتذرت مرة تلو الأخرى، وكأنها السبب فيما حدث، إنه قلب الأم الذي يُخدش مع كل انكسارٍ لأبنائها في الحياة.
كانتْ هذه أول حادثة حصلت للشابة هنادي رضوان (25 عاماً) من مدينة غزة، حينما عادت من جامعتها، ولم تسعفها بطارية هاتفها المحمول للاتصال بأحدٍ من عائلتها؛ لمساعدتها في الوصول إلى منزلها، تحسست معالم الطريق بحثاً عن الوجهة الصحيحة، فجأة، اصطدمت بحائطٍ في وجهها، ترك لديها جروحاً في الوجه، ونزيفاً في الأنف، وندوباً في القلب لا تُنسى.
| عمى مفاجئ
تستذكر هنادي ذلك الموقف، يخبو صوتها وتخترقه ابتسامة حزينة: "لقدْ أُصبت بإحراج شديد، تملكتني رغبة في البكاء، إلا أنني ألجمت عيناي عن فعل ذلك، وتمنيت أن لو لم يراني أحدْ، لملمت نفسي ومضيت في الطريق، فلطالما حفظتُ مساراته، لكن لا أدرى ما الذي حدث لي".
بدأت حكاية هنادي حينما استيقظت ذات يوم من نومها، فتحت عينيها، خُيّل إليها أنها في حلمٍ ما، لا، ليس حلماً، يبدو أن هناك أمراً ما، سواد يغطي معظم عينيها، إنها بالكاد تستطيع الرؤيا.
وعمّا حدث معها في ذاك اليوم بالضبط، تقول: "لم يسبق الأمر أي عوارض تؤهلني لتلقي أثقل خبرٍ في حياتي، كنتُ أستعد صباحاً لتجهيز الفطور مع عائلتي، وترتيب أمور الذهاب لفرح أقربائنا، لكنني تفاجأت بوجود نقطة سوداء، بدت وكأنها تسري في عينيّ، شكوتْ لوالدي، فأخذني سريعاً إلى طبيب العيون، وكان السواد يتفشى رويداً رويداً".
وتضيف لــــ (بنفسج): "حينما عرضني والدي على الطبيب، تلقيت أكبر صدمة في حياتي؛ حينما أخبرنا بأن انفصالاً في الشبكية قد حدث، وفي هذه اللحظة تماماً انعدمت الرؤيا لديّ بشكل كامل، نعم أُصبت لحظتها بالعمى".
كان الأمر بمثابة صفعة قاسية لوجوه عائلتها التي لم تتخيل للحظة حدوث ذلك، خيّم الحزن على الجميع، إلا أن هنادي شعرت بمدادٍ من الإرادة قد بثّها الله في جسدها، كي تُقَوّم اعوجاجاً داهم حياتها. أخبرت الجميع بلسانٍ مطمئنٍ لقدرٍ اختارها دون غيرها، " أنا راضية بما كُتِب لي، وسأعود لممارسة حياتي كما كنتُ سابقاً، فلا تبتئسوا لأجلي".
| طريق الجامعة
آثرت هنادي تأجيل فصلها الدراسي الجامعي لأجل العلاج، فتنقلت بين الأطباء علّ أملاً يُعيد إليها بصرها من جديد، لكنْ للأسف، محاولاتٌ باءت جميعها بالفشل، ما شكّل لديها حافزاً أكبر للتأقلم، ومجاهدة الحياة.
وعن تفاصيل حياتها الجامعية تُخبرنا هنادي أنها كانت تنتقل من وإلى جامعتها في باصٍ متخصصٍ لذوي الاحتياجات الخاصة، وفي أحياناً كثيرة لم تكن تستطيع اللحاق به، لتضطر والدتها إلى ترك شقيقها ذي العام والنصف وحيداً في البيت، كي توصلها إلى الجامعة، ومن ثم تعود من فورها. استمر الحال شهرين منذ الحادثة إلى أنّ اعتادت هنادي الذهاب والإياب إلى الجامعة بمفردها.
بعد فقدان هنادي لبصرها، أصبح الكل يُشير عليها بضرورة اختيار تخصص آخر غير تخصص الخدمة الاجتماعية؛ نظراً لميدانية العمل فيه وكثرة المقابلات، لكنها مع كل انتقاد كان يوجّه لها، تجتاحها الرغبة في البقاء أكثر، اعترض أساتذة قسمها في بادئ الأمر، وبعد إقناعها لهم، تقول: "أكملت وانتصرتْ". صديقات هنادي كُن اليد التي تتكأ عليها، يلازمنها طوال الوقت، يسجلن لها المحاضرات ويساعدنها في التنقل وحل كافة أمورها الجامعية.
| القلب الرءوم
من أصعب الأوقات التي كانت تمر على هنادي، تزامن موعد اختباراتها الجامعية مع إخوتها الصغار، "كانت أمي تتركهم، وتبقى معي طوال الليل لتدّرسني، وحينَ أطلب منها الذهاب إليهم والانتباه لدراستهم، تجيبني فوراً "لا عليك سيتدبرون أمورهم، أنتِ أهم من الجميع بالنسبة لي، عليكِ أن تُثابري وتجتهدي كي تُحققي ما تريدينه يا ابنتي".
الكنز الأبدي بالنسبة لهنادي، عائلتها، فهم أول الداعمين لكل أحلامها، يُصرون على معاملتها بشكل طبيعي كباقي إخوتها، لا يريدون افتقاد كوب الشاي الذي كانت تعدّه دائما لهم، ولا أي أمرٍ اعتادت على فعله من قبل، لتعود إلى مساعدة أمها وترتيب خزانتها واختيار ملابسها وإعداد كلُ شيء تريده بنفسها.
التفاؤل الذي وُلد بالفطرة لدى هنادي كما تقول والدتها، لم يخذلها في حياتها الجديدة، بل كان معيناً لها في كل خطوة، فقد كان شعارها الذي لم يسلم شيء من كتابته عليه: " أجمل هندسة في الحياة أن تبني جسراً من الأمل فوق بحر من اليأس"، طبعته في ذاكرتها ووضعته نصب عينيها، فكان رفيقاً ومؤنسا لجميع أوقاتها.
وفي نصيحةٍ تُهديها هنادي للجميع: "إن أراد شخصٌ النجاح عليه أن يتوقف عن استخدام الظروف كشماعة لكل فشل، وألا يدفعه ذلك للتنحي جانباً، بل عليه أن يُطوّر من نفسه، والحياة لا تتوقف عند أحد، وعلى الجميع أن يمضي في حياته ويحقق إنجازاته دون استسلام أو رفعٍ للراية البيضاء".
| سبيل النور
لم تقتصر هنادي على تحصيلها لدرجة البكالوريوس بمعدل امتياز، بل أكملت حلمها في الالتحاق بقسم الصحة النفسية والمجتمعية بكلية التربية للحصول على درجة الماجستير.
وبذات يد العون التي امتدت لتحتضن هنادي خلال رحلتها الجامعية، عادت لتمتد بعطاءٍ وجهد أكبر في رحلة الماجستير، إذ تشتري هنادي الكتب التي تحتاجها، وتقرأها أمها جميعاً على مسمعها، تعقب هنادي: "يتطلب هذا الأمر جهداً ووقتاً كبيرين من يوم أمي، إلا أنها لم تتوقف لحظة عن دعمي وتشجيعي للاستمرار".
ولأن مواعيد دراسة الماجستير في المساء، شعرت هنادي أنّ إيصالها من قبل والدتها سيشكل عبئاً مضاعفاً عليها، فقررت تخطي هذا الأمر بذهابها للجامعة بمفردها، تقول: "لم يكن الأمر سهلاً البتة، فلقد أضعتُ الطريق أكثر من مرة، لكن لم أيأس من فعل ذلك، وسأستمر في الاعتماد على نفسي أكثر فأكثر".
ويبقى حلم هنادي مبتور الجناح، تتمنى أن لو يُكتب له الكمال من الله يوماً ما، بإتمام علاجها في زراعة شبكية لعينيها خارج قطاع غزة، كي تبصر الحياة من جديد.