الثلاثاء 16 مايو
كنت على صلة وثيقة بنتائج الموت في حياتي كلها، بحكم أنني فقدت والديّ وأنا في عمر صغير جدًا، ولكني لم أجابه الموت ذاته كما فعلت في الفترة الماضية، فقدت ثلاثة من الأعزاء على قلبي، وجلست في ثلاثة بيوت للعزاء في أسبوع واحد، ذرفت من الدموع ما فاض به القلب المكلوم، صبّرت من حولي وصبّروني وتواصينا بالصبر، الله المستعان.
كثير من المعزّين كانوا يختمون كلماتهم في محاولة منهم لتخفيف أثر المصاب الجلل علينا بقولهم "ربنا يجعلها آخر الأحزان". لكن هل من المحتمل أن يكون هذا الفقدان هو آخر الأحزان؟! تعلمنا مدارس الحياة كل يوم أن هذا الفقدان لن يكون آخر الأحزان، وأن الأحزان ستستمر بأشكال وأثقال مختلفة، ما دام الدم يجري في العروق. لكن كيف سنواصل المسير في مشوار العمر ونحن نحمل كل هذه الأثقال على أكتافنا؟ وكيف لنا أن نتخفف من بعضها؟
إن إحدى أهم مدارس العلاج النفسي الذي أمتهنه هو العلاج بالمعنى، والذي يستكشف فيه الإنسان معنى ما، من رحم قسوة الأحداث التي تعصف بقلبه وحياته وتدفعه إلى اللامعنى. فبدلًا من أن يتجه إلى الحلول العدمية، يستخلص من تجربته معنى يدفعه إلى المضي قدمًا.
وهي فكرة تبدو وكأنها فلسفة بعيدة عن الواقع، لا تعبر عن ألم أم رأت للتو ابنها الشاب مضرجًا بدمائه وهو يجلس خلف مقود سيارته، كما حدث في نابلس قبل أيام. لكن دعني أقل لك أن تلك الأم لو فكّرت بأن ابنها قد فاضت روحه سدى، وأن المسؤولين مرتاحين في منازلهم لا يمسّهم ولا يعنيهم ما حدث له، ستختلف رؤيتها للحياة بعد مصابها عن لو فكرت بأنه استشهد فداء للوطن وخطوة في سبيل التحرير وأنه سيكون شفيعًا لها.
كما يمكننا نسج بقية للحكاية التي بترت بفعل الموت، بريشة مدادها حسن الظن بالله، فأكاد أرى أيوب وقد شافاه الله وعافاه، راكضا ينادي الطفل ريان المغربي الذي ينام هانئا مطمئنًا، ليذهبوا إلى نبي الله إبراهيم وزوجه سارة، كما أخبر الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وأرقب ابتسامة نهلة البريئة وهي تتسامر مع صويحباتها.
كما ألمح أبا محمد يلقي النكات على من حوله -كعادته في الحياة الدنيا- فيضجون ضاحكين، وها هو اليوم ينضم إليهم أبو بشير بهدوئه ودماثة خلقه فيرحبون به أشد ترحيب، يدعونه إلى تناول ما لذ وطاب من دون خوف من ارتفاع مستوى السكر في الدم، فيسأل عن شهداء نابلس ليبحث معهم كيف عرفوا وجهة الشهادة بالرغم من صغر سنهم. رحمة الله عليهم جميعًا رحمة، واسعة وجمعنا بهم في مستقر رحمته.