الثلاثاء 16 مايو
يخطر في بالي العيش في مكان غير هذا، ولا أستطيع أن أتخيل النوم في غير هذا المكان، ولا قدرة لي على تصور مغادرة هذا المنزل الذي تحمل كل زاوية فيه ذكرى، وكل ركن فيه شاهد على أحداث طفولتي ومراهقتي وحاضري. ففي ثناياه ترعرع والدي برفقة جدتي، وفيه تزوج أبي وأمي وكانت ثمرة حبهم أنا وأخي التوأم محمد، ثم محمود ومها لاحقًا. فأي ظلم هذا الذي يجبرنا على أن نغادره، وأي حكم جائر هذا الذي يجبرنا على تركه؟
هذا البيت الصغير الدافئ والذي تفصله دقائق معدودة على الأقدام إلى المسجد الاقصى كانت قد حصلت عليه جدتي إثر توقيع اتفاقية وقعت عام 1956، ضمت ثماني وعشرين عائلة من حرب النكبة، وبين وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) والحكومة الأردنية والتي كانت مدينة القدس تحت إدارتها آنذاك.
وتنص تلك الاتفاقية على بناء وحدة سكنية لكل عائلة من العائلات الثماني والعشرين والسكن فيها، على أن تتعهد الحكومة الأردنية بتسجيل الأرض باسم هذه العائلات بعد ثلاث سنوات إن استطاعوا بناء مجتمع حضاري قائم على التعايش والسلام والمحبة بينهم، لكن الحكومة الأردنية لم تفي بوعدها وبدأت حلقات المماطلة في تسجيل الأرض باسم تلك العائلات حتى حرب النكسة والتي أسفرت عن احتلال القدس من قبل قوات الاحتلال وفقدان الأردن إدارتها على مدينة القدس وبقاء الأرض بدون صاحب.
في بداية السبعينات علمت جمعيات استيطانية بأن هذه الأراضي كانت تابعة للحكومة الأردنية، وبأنها لم تقم بتسجيلها بأسماء أصحابها، فقامت تلك الجمعيات بتزوير الأوراق وتسجيلها باسمهم ووضعوها في الطابو الإسرائيلي.
ومنذ ذلك الحين بدأت المحاكم في الجمعيات الاستيطانية برفع دعاوي على العائلات بحجة أنهم ليسوا أصحاب الأرض، وفي عام 2008 رأت تلك الجمعيات حصاد مكائدهم وكذبهم وتزوريهم واقعًا، فاستطاعوا أن يستولوا على أول بيت في حي الشيخ جراح ليعيش هؤلاء اللاجئين نكبة ثانية وتشريد آخر تبعها في 2009 الاستيلاء على منزلين يعودان لعائلات الحنون والغاوي وتشريد عشر عائلات أيضًّا في مشهد قاسٍ وعنيف محفور في ذاكرتي، لا أنساه أبدًا.
لأخبركم ببداية القصة، بدأت ونحن لا نزال في رحم أمي عندما قرر والدي وقتذاك بتوسعة البيت الذي يسكن فيه مع جدتي وبناء ملحق بجانبه. حاول كثيرًا أن يحصل على ترخيص لبناء الملحق إلا أن بلدية الاحتلال كانت دائمًا تحول دون الحصول على ترخيص، مما دفع والدي شأنه شأن الكثيرين من سكان القدس أن يباشر بالبناء دون الحصول على ترخيص الأمر الذي كلفه بعد ذلك الكثير من المال، وصل لمئة ألف شيقل غرامات بسبب البناء دون ترخيص والكثير من الألم والقهر التي ستحمله السنوات القادمة.
وفي يوم من أيام سنة 2000 القاسية جدًا، جاء قاضي محكمة الاحتلال الغاشم وأغلق باب الملحق وأخذ معه مفتاح بيتنا. البيت الذي يحوي غرفتي التي كنت لطالما أتخيل كيف سيكون لون طلائها وشكلها؟ بقي الباب مغلقًا والآمال معلقة على فتحه في يوم ما والسكن فيه. بيد أن الاحلام تبدو مستحيلة وممنوعة في واقع محاط بأحقر الاحتلالات التي شهدها وطني. فبعد تسع سنوات من الإغلاق جاء قرار المحكمة الجائر بالسماح للمستوطنين بالسكن في ملحق بيتي، والسماح لهم بأخذ نصف البيت!
شعور تقف الكلمات حائرة على وصفه، مقاسمة بيتي مع عدوي! ذقت وعائلتي شتى أنواع القهر والذل والتعنيف الجسدي واللفظي، وواجهنا الكثير من التصرفات الاستفزازية والتخريب، عدا عن إطلاق كلابهم الشرسة علينا والتي لا تقل شراسة عن مقتنيها. والآن، أصدر الاحتلال قرار الإخلاء لعائلتي برفقة عائلات أخرى من الحي، للاستيلاء عليه بالكامل ومنحه للمستوطنين. ما زلنا نقاوم في مكاننا وحينا الذي ترعرعنا به، نحن صامدون ما بقي الزعتر والزيتون.