الأربعاء 17 مايو
معنى أن تكون لاجئًا، ومعنى أن تتربى في بلد ليست ببلدك، وتتعلم فيها، وتعرف شوارعها وطرقاتها أكثر من وطنك، ومع ذلك فأنت غريب في هذا البلد وتُعامل بناء على ذلك. معنى أن لا تعرف تفاصيل وطنك، وروحك وقلبك معلق به، وتردد ما قاله مريد البرغوثي يومًا "ولدت هنا ولدت هناك"، لا تعرف وطنك سوى بالصور والخرائط، تتأمل الخريطة وتخمن أين كان يقع بيت جدي في بلد الشيخ في حيفا، وكيف كانت حياتهم، وتسرح بأحلامك لتكمل في سرك لو كنت الآن هناك ماذا كان سيحدث! وتتساءل لماذا ليس لي الحق بأن أدخل وطني، تساؤلات كثيرة كنت أطرحها على نفسي منذ الصغر، خصوصًا بعد أسئلة صديقاتي لي بعد معرفتهم أني فلسطينية.
ليس لدي جواز سفر، وجواز سفري مكتوب عليه وثيقة لبنانية! كنت صغيرة ولا أعرف لماذا أنا لاجئة، ولماذا لا أدخل فلسطين، ولماذا وثيقة سفر، ولماذا أنا هنا ولست في وطني فلسطين! حتى كبرت وأدركت أن أصحاب الوثائق ممنوعين من دخول فلسطين، وأن الوثائق بأشكالها وألوانها؛ لبنانية وسورية وأخرى مصرية، وأصبحت أفرّق بين الجواز الأردني ذي الخمس سنوات والسنتين، وأصحاب الهوية الخضراء والصفراء والزرقاء، وكل ما يميز كل جزء من أبناء وطني المشتت.
أن تكون لاجئًا يعني أن أعرف عائلتي، وأتعرف عليهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فجزء منهم في سوريا وآخر في لبنان والأردن والإمارات، وآخرون في أوروبا ومصر وغيرها من بقاع الأرض، مشتتين لا تجمعنا أرض واحدة، فقط يجمعنا مجموعات ومحادثات وصور لنتعرف على بعض عن قرب، وأن أصبح فوق العشرين ولم أقابل أيًا منهم بسبب الحدود.
أن أكون لاجئًا يعني أن يكون صباحي على صوت ميس شلش وهي تغني "صباح الخير يا بلادي". وعندما تكمل وتقول "صباح الخير ياللي اسمك فلسطيني" أكون سعيدة وكأنها توجه الكلمات لي، وأتوقف عندما تغني "صباح العودة حتمًا يافا ملقانا، حتمًا حيفا ملقانا"، وبتنهيدةٍ أردد خلفها حتمًا حيفا ملقانا.
وأما مسائي فبصوت جوليا بطرس وهي تغني "الحق سلاحي وأقاوم، أنا خلف جراحي سأقاوم"، وأعلي بصوتي وأنا أردد معاها "بيتي هنا، أرضي هنا، البحر السهل النهر لنا... "، وما بين أغاني المقاومة والوطنية والنشيد الوطني أرنو لوطن أنا عنه لاجئة. وأتمنى كل صباح لو كنت فيه على شاطئ بحر حيفا. أن تكون لاجئًا يعني أن تحس بالعجز وأنت تتابع أخبار وطنك من خلال نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي، وأنت بعيدٌ عنه ليس بوسعك شيء؛ هنا اشتباك على الحدود، وهنا عملية طعن، وهنا شهيد، والمرابطات يقفن في وجه المقتحمين لساحات المسجد الأقصى.
إحساسك بالقهر وأنت تتعايش الأحداث عن بعد، وأنت ترى القدس والأقصى يستصرخ وليس بيدك سوا الدعاء لهم بالنصرة. معنى أن ترى أحداث وطنك عن بعد، فتحزن لحزنهم وتفرح لفرحهم، وتكره بعدك عنهم وتلعن الحدود التي تبعدك عن أبناء شعبك وأرضك وقدسك.
معنى أن القدس تقبلُ من أتاها كافرًا أو مؤمنًا ولا تقبلك بقوانين الطغاة، وهنا أذكر ما قاله تميم البرغوثي في قصيدة "في القدس": "القدسُ تقبلُ من أتاها كافرًا أو مؤمنًا .. أُمرر بها واقرأ شواهدَها بكلِّ لغاتِ أهلِ الأرضِ فيها الزنجُ والإفرنجُ والقِفْجَاقُ والصِّقْلابُ والبُشْنَاقُ والتاتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ.. فيها كلُّ من وطئَ الثَّرى.. كانوا الهوامشَ في الكتابِ فأصبحوا نَصَّ المدينةِ قبلنا.. أتراها ضاقت علينا وحدنا! يا كاتب التاريخِ ماذا جَدَّ فاستثنيتنا .. يا شيخُ فلتُعِدِ الكتابةَ والقراءةَ مرةً أخرى، أراك لَحَنْتْ".
أن تكون لاجئًا يعني أنك متهم لشيء أنت لا تعلمه أين ما كنت، كما قال تميم البرغوثي في قصيدة " فلسطيني ممنوع تعيش": "فلسطيني ممنوع تعيش قالولك أسكت ما تحكيش، إنت خلقت للتلطيش، للحواجز للمعابر للتفتيش". وكأن وثيقتك جرم أنت لا ذنب لك به، فكم وقفت في المطارات عندما كنت أقدم وثيقتي وألمح وجه الضابط أمامي كيف يتغير ويرمقني بطرف عينه، وفورًا يوقفني جانبًا لكي لا أعطل السير، وحتى يفحص وثيقة سفري ويقوم بالإجراءات اللازمة.
وصدق تميم البرغوثي عندما أكمل وقال: "فلسطيني بكل المطارات اسمك بالأحمر مكتوب، وعلى شباك مصلحة الجوازات كتبوا على جبينك مطلوب، لازم تتوقف ساعات مذنب أو من دون ذنب، ويتوجه إلك اتهامات إنك سبب كل الحروب، كأنو بسببك الحق مات والعدل بأرضك مسلوب، وكأنك سبب النكسات وكل أزمات الشعوب".
وكأنك مجرم يجب التخلص منه لا الأرض تقبلك، ووطنك مسلوبٌ ممنوعٌ منه، ولا الحكومات تتقبلك. وكل ما يحدث من نكبات ونكسات وأزمات، أنت المذنب به لا تعرف لك مستقر ولا أرض تحتويك بآمان. لاجئة ولكني عائدة بإذن الله.