الأربعاء 17 مايو
"ماما ماما وين أخذوا بابا"… برعب لا مثيل له يسألني ابني المصاب بالتوحد عن ما الذي يجري داخل منزلنا حين تداهمه قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهو صغير كان لا يدرك بالضبط ماذا يحدث، ولكن بفعل الهمجية الدائمة للاحتلال تعود على اقتحامهم لمنزلنا بشكل دائم منذ طفولته وحتى بلغ الثامنة عشر. وهل ظل يخاف؟ نعم يخاف وكلنا نخاف! تخيل أن نصحو من النوم ونفتح أعيننا والجنود ماثلين أمامنا يخربون كل ما تقع أعينهم عليه، كل شيء بلا استثناء. ينقلب المنزل لباحة حرب حرفيًا. وبنهاية الاقتحام يعتقلون زوجي من دون أي مبرر.
أنا حنين البنا زوجة الأسير أحمد عواد. منذ بداية زواجي لم تستقر حياتنا أبدًا، فالاحتلال ينغص علينا حياتنا باعتقاله الدائم لزوجي، لا أذكر كم من مرة اُعتقل منذ بداية زواجنا.. لا أستطيع أن أحصيها لكثرتها.. ولكن ما أعرفه أنه قضى حوالي ٧ سنوات متفرقة في السجون الإسرائيلية.
رزقنا الله من هذا الزواج بخمسة من الأبناء ٣ أولاد، وبنتان. عاشوا معي كل الاعتقالات ومضايقات الاحتلال لنا. وعرفوا في عمر مبكر ماذا يعني أن تكون أسيرًا. يرعبهم الليل. فمن الممكن أن يجدون فجأة الجنود في قلب المنزل حتى لو كان والدهم معتقلًا لديهم. ينكلون بنا ويكسرون كل ما في المنزل. أذكر في مرة كان ابني المقداد صغيرًا فأخذه الجنود أسفل البيت وبدأوا يحققون مع طفل صغير ويسألونه عن والده ومكانه. خفت جدًا وقتها، لا أخاف على نفسي بل يرعبني أن يمسوا أطفالي بأذى.
كل اعتقال لأبي المقداد يهزنا من الداخل ويترك في قلوبنا أثرًا لا تداويه الأيام، ولكن الاعتقال الأعنف كان حين اعتقله الاحتلال بعد مطاردة دامت عامين، كان مختبئًا في أحد البيوت وإذ بالاحتلال يقتحم البيت ويخربه بالكامل حتى أنه بات لا يصلح للعيش، لم يجدوه في البداية وغادروا بالفعل، فأتى بلاغ يؤكد وجود أبو المقداد بالداخل، فعاد الجنود وأتوا بأجهزة الاستشعار، والكلاب، وبدأوا البحث من جديد حتى وجدوه. حقيقة الخيانة من أقسى ما يمكن أن يتعرض لها المرء في حياته. لولا هذا الخائن كانت غادرت القوات بدون أبو المقداد. حين وجدوه أبرحوه ضربًا وعلى إثر الضرب الذي تعرض له مكث في المشفى لمدة شهر.
يعز عليَّ أن أرى حزن أبنائي وافتقادهم لوالدهم في المناسبات المختلفة، في أحد المرات كانت ابنتي ستكرم لحفظها ١١ جزءًا من كتاب الله، رأيت الحزن في عينيها وصرحت به لي علانية بالقول: "ياريت بابا معي'. لم تكن تلك المرة الأولى الذي ينال الألم من أبنائي،كل يوم يمنون أنفسهم بلقاء قريب. ابني الكبير نسخة من والده في الشكل والطبع، كبر قبل أوانه، الآن يبلغ من العمر ٢٣ عامًا ولكنه كبر منذ زمن بعيد، تحمل المسؤولية مبكرًا، يفعل كل شيء لنا بالمنزل. يعمل ويدرس في آن واحد. فخورة بأنه ابني. أما الصغير يوسف هذا النسخة الأخرى من والده يشبهه في الكثير الكثير.
الألم كثيف وكبير علينا، لكن ما يواسينا أن الله يبتلي عباده المؤمنين ونسأل الله أن صابرين، غير قانطين من رحمته. في مرة من مرات المداهمات الكثيرة، كنت أقطن في بيت للإيجار واعتقل أبو المقداد قبلها، جاءوا للبيت دمروه بالكامل، حينها كنت عند أبات خارج المنزل، عدت له وإذ به مدمر بالكامل، لا شيء كما هو، روادني شعور بالتعب، جلست على الأرض أبكي، لا أعلم بماذا سأبدأ وماذا سأرمم. كانت فترة قاسية عليَّ.
لطالما دعمني أبو المقداد ووقف بجانبي، شجعني على الدراسة، أنهيت البكالوريوس وأنا متزوجة، ودرست بعدها برنامج خاص بالتوحد وهذا ساعدني في حالة ابني، بفضل الله أسهمت في تحسن حالته من التوحد المتوسط إلى البسيط. كما وأكملت الماجستير رفقة أبو المقداد، في يوم مناقشة رسالة الماجستير كان يوم الإفراج عنه ويا لها من فرحة حينها، شعرت أنني خفيفة خف الريشة، جاء وألقى كلمة، وأهداني خاتمين من الفضة كتب عليهما "تعاهدنا على السير معًا" و"قد بقينا على العهد سويًا".
رفيق دربي رجل حنون لأبعد الحدود، يعمل في لجان الإصلاح، يُصلح بين المتخاصمين برفق، ويقول الحق ولا يهاب أبدًا، يوصيني دومًا بأهالي الأسرى، ويرسل لي الرسائل بعناوين لأناس لأزورهم وهو في الأسر. فرج الله كربه وفك أسر كل أسرانا.