الأربعاء 17 مايو
"عندما تموت الأمهات تصدأ الإبر التي كانت تُخيط الجراح". كنت صغيرة للغاية حين توفيت أمي ابنة السبعة عشر عامًا، لم أستوعب معنى الفقد حينها، أنا كفيفة البصر، نعم، ولكني كنت أرى من خلالها، حين وفاتها انقسم القلب نصفين، لم يعد لي طاقة لفعل أي شيء في الدنيا، كنت في الثانوية العامة حينها، ساءت سلوكياتي جدًا، ولا أخشى من قول ذلك، تعلمت الكثير من تلك المرحلة.
أنا سارة أبو علي من الأردن فتاة من ذوي الإعاقة، ولا أحب أن أُعرّف بلفظ من ذوي الاحتياجات الخاصة، حين عرفت عائلتي بأني كفيفة، استغربوا من الأمر برمته، وكان بمنزلة مفاجأة بالنسبة لهم، فأنا أول كفيفة في العائلة. كبرت ولم يكن هناك ممنوعات لدي، لعبت مع الصغار في حارتنا، لا أذكر أن هناك من ضايقني، أمي كانت داعمتي الأولى حتى وفاتها.
تعلمت حين التحقت برياض الأطفال برايل، كنت في روضة تخص المكفوفين، تأقلمت معهم وكنت أنال أعلى الدرجات، حتى حصلت على منحة تفوق من سمو الأميرة بسمة، بدأت الصف السابع في عالم جديد بعيدًا عن المكفوفين.
كنت أنا الكفيفة الوحيدة في تلك المدرسة، شعرت أن زملائي يهابون مني، وكانت هناك فجوة كبيرة في التعامل، ساءت نفسيتي إثر شعوري الدائم بأنني شخص غير مرغوب به، وهذا انعكس على الأداء الأكاديمي، وقلّ معدلي. قررت أن أترك المنحة وأغادر تاركة ورائي كل شيء، رفضت والدتي وأخبرتني بأنني سأتعامل مع هكذا نوعية مستقبلًا، فلا داعي للهروب، وذهبت للمعلمات وأخبرتهم عن كيفية التعامل معي. بدأت شخصيتي بعدها بالتغير، أنا كنت المبادرة في الحديث معهم، اندمجت معهم في الرحلات المدرسية، وتحسنت الأمور بشكل كبير بعدها.
مرت الأيام وأنا أنجح في دراستي، حتى وصلنا إلى الثانوية، اضطررت حينها أن أترك المنحة، لأن المدارس الخاصة قررت إلغاء التخصص الأدبي والاكتفاء بالعلمي، وكان يجب على المكفوفين أن يختاروا الأدبي، فلا مجال لديهم للاختيار بقرار وزاري في الأردن. عدت إلى مدرسة المكفوفين، فشعرت بشعور عودة المغترب إلى بيته. أكملت الثانوية العامة والعائق الذي واجهني بالدراسة أنه لا توجد مراجع خارجية للدراسة، والخيار المتاح لدينا هو الكتاب الوزاري، بحثت عن مطبعة لتطبع لي الملازم بطريقة برايل، ووجدتها بالفعل، كان الأمر مكلفًا ماديًا لكنه سهل عليَّ الدراسة.
بعد عواصف عديدة وضباب غمر حياتي، نجحت بمعدل ٩١.٥ بالثانوية العامة، وجاء وقت الالتحاق بالجامعة. الخيار الأول كان تخصص الإنجليزي، كونه كان حلم والدتي، التحقت به بالفعل، وكنت أول كفيفة تدخل هذا التخصص في الجامعة الأردنية، غمرني شعور التيه في فصلي الدراسي الأول، وحصدت على معدل متدن جدًا، فقررت التحويل من هذا التخصص الذي لا يشبهني.
سارعت في أمور التحويل لتخصص العمل المجتمعي، وكان أخر يوم للتحويل، وإذ بالورق الذي أنجزته يحتاج لتعديل ثم إمضاء رئيس القسم الذي لم أجده في مكتبه وقتما ذهبت. وانتهت مهلة التحويل، شعرت بأنها إشارة لي بأن أبقى، بقيت بالفعل، وعقدت علاقات جيدة مع الزملاء وهذا حسن من نفسيتي كثيرًا.
مرت سنوات الجامعة بحلوها ومرها، وبدأت أبحث عن عمل، وجدته وتقدمت له ورفُضت بسبب وضعي مع أنه أقل من مستواي الدراسي، ولو عاد بي الزمن لا أفكر للتقديم له من الأصل. كان خطأ مني، لكن لا بأس، كلما كبرنا وسعت آفاقنا وفكرنا بطريقة أفضل. قررت بعدها التوجه للعمل التطوعي، فأصبحت مسؤولة عن حملة "لعله يزكي"، كنا نقوم بتحويل الكتب لملف "word" للمكفوفين، ونوفر مرافقين لهم. ثم أسست مبادرة "لغتنا غير نسعى لأجل مجتمع دامج" تهدف لتعليم الأشخاص لغة الإشارة للتعامل مع الصم، وتعليم المكفوفين طريقة برايل.
كلما مر الزمان أفخر بنفسي أكثر، أرى في إعاقتي سببًا لما عليه أنا الآن، ربما لولاها لم أكن سارة الحالية، توالت الأعمال وعملت في أكثر من عمل، حصلت على المنحة الفلندية للإغاثة، وصممت تطبيق يقرأ العملات الرقمية للمكفوفين، إضافة إلى الألوان.
مرت السنوات وظل حلم دراسة العمل المجتمعي يروادني، قدمت للماجستير ورُفضت أكثر من مرة، في ٢٠٢٠ تم قبولي، كانت فرحة ما بعدها فرحة، ولكن جاءت "كورونا" ليتحول التعليم إلى إلكتروني انزعجت جدًا وقتها، ولكنه أمر الله، أكملت الطريق، وها أنا في مرحلة إعداد الرسالة. وأعمل حاليًا مستشارة مشروع في مؤسسة أوكسفام البريطانية، لم أتوقع أن أصل لهذا العمل ولكنه فضل من الله. أقول لكل ذوي الإعاقة: "لا تهتموا لأحد، استمروا بتحقيق أحلامكم حتى النهاية".