الأربعاء 17 مايو
"كبرت يا أمي لم أعد بنت السادسة عشر عامًا، أخذ السجن سنوات من عمري، وها أنا في العشرينيات، لم أعد تلك الطفلة الشقية التي تأبى إلا أن تحتفل بعيد ميلادها، كبرت جدًا في الغياب يا أمي". هذه كانت رسالة ابنتي الأسيرة نورهان عواد لي، يا الله كيف ينفطر قلبي بعد كل زيارة، ورسالة، وخبر من داخل الأسر. ابنتي اُعتقلت وهي طفلة بعمر السادسة عشر، واخترق جسدها الصغير ثلاث رصاصات غادرات، وهي تسير في شارع يافا بالقدس رفقة ابنة عمتها هديل، كانتا بملابس المدرسة، فتلطخ ثوبهن المدرسي بدمائهن، من سلاح لا يعرف الرحمة، وكانت التهمة "تنفيذ عملية طعن".
اعتقلت الصغيرة نورهان في عام ٢٠١٥، وخضعت لاستجواب قاس وهي تحت تأثير البنج بعد إجراء عملية لإخراج الرصاصات التي اخترقت جسدها، حيث ظلت رصاصة قابعة بجانب الكبد منذ ذلك العام وحتى الآن، وذلك منعًا لفقدها حياتها إن اُستخرجت الرصاصة، فظلت تعيش بها. ساءت حالة نورهان بعد است.شهاد ابنة عمتها هديل أمام عينيها سبب جرحًا في قلبها لا يندمل بمرور الزمن بل يزداد. رحمة الله عليها.
بعد عام من الاعتقال حكم عليها بالسجن لمدة ١٣ عامًا وغرامة مالية كبيرة، في ما بعد تم تخفيفها لعشر سنوات، فكانت صدمة بالنسبة لنا، هل ستقضي ابنتي حياتها بين تلك الأسوار العالية، لن أحتفل معها بأعياد ميلادها التي كانت تحتفل بهم الصغيرة مهما كانت لدينا ظروف غير مناسبة، تصر على كعكة عيد الميلاد. انطفأ قلب ابنتي في السجن، وسُرقت منها شقاوتها وضحكتها، فأصبحت محملة بالهموم، تنتظر وننتظر يوم التحرر، ومرور الأعوام سريعًا حتى التقطتها بين أحضاني راكضة، وتعزو وجهها الضحكة.
فتاتي الصغيرة التي سأظل أراها ابنة العاشرة مهما كبرت، تتسع عيناها وتصل لهما الضحكة، وما أجمل فرحة العيون، حين ترى والدها أمامها في الزيارة، تشعر بأنها في مأمن، مطمئنة، تستند عليه بكل أريحة حتى وإن حالت بينهم الجدران، استاءت حين مُنع من الزيارة لفترة طويلة، بسبب عدم حمله للهوية المقدسية، وحين عاد من جديد للزيارة بعد محاولات عديدة للحصول على تصريح الزيارة، عاد الأب من جديد ليرى طفلته الشقية.
كنا نزور نورهان أنا وأشقائها مرة كل خمسة عشر يومًا، ثم بعد كورونا مُنعنا من الزيارة لشهور وشهور، وهذا أثّر على نفسيتنا جميعًا، كنا نرسل التحيات والأخبار لها عبر الإذاعة التي تستمع لنا عبرها. ومن جديد عاد النظام القديم للزيارات ولله الحمد.
أُصيبت ابنتي بكورونا داخل الأسر، وهذا آخر ما كنت أتوقعه، عُزلت وزميلاتها السبع المصابات لمدة ٢٠ يومًا في ظروف قاسية، وعدم اهتمام صحي بهن، كانت المدة طويلة جدًا، في حين كان حجر كورونا بالخارج خمس أيام فقط، استاءت نورهان من جلوسها كل هذه الأيام في نفس الزنزانة، لم تر الشمس ولا السماء، ولم يلفح وجهها الهواء في ليلة شتوية باردة. وحين انتهى الحجر، شعرت نورهان وكأنها عصفور خرج من قفصه، فاستقبلت محاميها في الزيارة بابتسامة كبيرة، فسألها عن سر سعادتها، فأخبرته وقالت: اليوم عنا عيد.. انفك الحجر عنا، وبدنا نحتفل ونعمل كيكة برتقال". فسألها: كيف رح تعملوها بدون طحين؟ ردت: "عادي بنطحن البسكوت وبمشي الحال".
ينفطر قلبي إن جُرحت نورهان بخدش بسيط، فما بالكم حين أراها تتعرض للتنكيل والقمع داخل الأسر، في كثير من الأحيان أعود مريضة من الزيارات، وحين سماع الأخبار السيئة التي تأتينا من نورهان. قبل نحو ستة أشهر اقتحم السجانين غرف الأسيرات في منتصف الليل من دون أي مقدمات، ونقلوهن من غرفهن إلى العزل.
وصفت لي ابنتي المشهد وقالت: الست سنوات اللي قضيتهم بالأسر يا إمي كوم، وهاد اليوم والرعب اللي عشناه كوم تاني". نُقلت من غرفتها بعد ست سنوات مع زميلاتها في الغرفة، ونُكل بها، وبهن جميعًا. فدخلت نورهان في إضراب لمدة أسبوع اعتراضًا على ما جرى، ولكن ردهم كان العزل وغرامة مالية.
ابنتي قارئة نهمة، أفخر بها، برغم جروحها الجسدية والنفسية التي تسبب الاحتلال بها، إلا أنها فتاة مثابرة، أكملت الثانوية العامة داخل الأسر وحصلت على معدل ٩٤%، لم نحتفل بنجاحها سويًا كما عهدنا، ولكن سنحتفل بكل مناسبة حين تتحرر نورهان، ثأرًا من احتلال سرق أحلامنا وآمالنا ومخططات أطفالنا لمستقبلهم. التحقت صغيرتي بالجامعة منذ عام ونصف العام، تخصص الخدمة الاجتماعية، وها هي تجتهد للتخرج بمعدلٍ عالٍ.
روح بيتنا تأمل أن تخرج من الأسر، لتكون معلمة لأشقائها الصغار، وتتولى مسؤولية دراستهم كاملة، تطمح أن تكمل حياتها بجانبهم، يتشاكسون، ويلعبون. اسأل الله أن يجمعني بابنتي ويفك أسرها قريبًا.