الأربعاء 17 مايو
"الكل بستنى أنه ابني يموت"، في غرفة تغمرها الأجهزة كان طفلي، وأنا أنظر إليه وأبكي وأدعو الله، ثلاث أيام متواصلة يحيى فيها على جهاز الأكسجين، لم أسمع صوته، لم أستطع ضمه كما يجب، وفجأة وبدون مقدمات استقيظ وقال "ماما"، يا الله ما أعظمك عاد طفلي إلي، أسميته ورد ليكون وردتي في هذه الحياة القاسية، حمدت الله أنه عاد للحياة مجددًا وسنكمل مشوارنا في العلاج، لأعطيه جزءًا مني.
بدأ مرض ورد يظهر مبكرًا جدًا، في عمر الشهرين كان ينزف من أنفه بشكل كثيف، وبالصدفة تزامن النزيف مع موعد تطعيم الشهرين، وأخبرت الدكتور عن مشكلة ورد، فقال لي: "مستحيل طفل ينزف هيك بالعمر هاد"، كتب لي مجموعة فحوصات لتميع الدم، فظهرت النتيجة مرتفعة جدًا لدرجة أن الجهاز لم يقرأها، ومن هنا بدأت رحلة الشكوك حول طبيعة المرض، أصبح ورد بعدها ينام بالمشفى كل شهر، بسبب ارتفاع أنزيمات الكبد، والنزيف من الفم والأنف، وارتفاع نسبة الصفار في الجسم.
بعد شوط كبير من إجراء الفحوصات الطبية تبين أن ورد مصاب بمرض وراثي في الكبد، وكلما كبر يزداد الوضع سوءًا، والأعراض الجانبية للمرض تزداد، كارتفاع درجة الحرارة، وحكة الجسم والخدوش، إضافة إلى أنه يُمنع من أخذ جميع التطعيمات الخاصة بالأطفال. أصبح عمر ورد عامين وما زال المرض يتفشى في جسده، تضخم بالكبد والطحال مقلق للغاية، كنت أشتري له ملابسًا أكبر من عمره بسبب التضخم في بطنه وجسده.
أذكر حين أردت أن ألبسه "جاكيتًا" لأول مرة، كيف كان شكل الملابس عليه، دائمًا تواجهني صعوبة في ملابسه، لم يستطع أن يلبس العديد من الملابس كالجينز مثلًا، أن أقفل الملابس كاملة بالأزرار لما أكن أستطيع، إثر الانتفاخ في بطنه. وكلما كبر أكثر يزيد الانتفاخ أكثر، فأخبرنا الطبيب أنه بحاجة لزراعة كبد، قلت له: "نعم، زراعة كبد! مش موجودة بفلسطين"، كنت في حالة نفسية محطمة وكأن الدنيا أقفلت الأبواب عليَّ وتركتني أحارب في حرب شرسة، ونظرات الناس من حولي كانت تشعرني أن علاجه مستحيل، ونظراتهم تقول "يموت أحسن وأرحم لك"، لكني لم أرفع راية الاستسلام، آمنت أكثر أن حلمي في علاج ورد سيتحقق وسأمنحه جزءًا مني ليعيش حياة آمنة بدون مرض ومعاناة.
شرعنا أنا ووالد ورد في إجراءات تحويلة طبية للسفر خارج الوطن، وتواصلنا مع مسؤولين وشخصيات لتسير التحويلة بشكل أسرع، لأنه كلما مر يوم يسوء وضع ابني، سبع شهور كاملة ونحن نسعى، ولكن دون فائدة، قررت أنا أن أتحرك بطريقتي، فذهبت لمحافظ مدينة الخليل، وأنا في طريقي قرأت خبر مفاده أن رئيس الوزراء الفلسطيني ووزيرة الصحة يعقدون اجتماعًا بالمحافظة، فقلت أنها فرصتي لأقول له حكايتي ليساعدني، ذهبت بالفعل، وواجهت منع من الأجهزة الأمنية المتواجدة للدخول للمبنى ولكن حين أخبرتهم أنها مسألة حياة أو موت تعاطفوا معي، وأخبروني أن أعطيهم تقارير المريض وهم سيوصلوها، رفضت وطلبت أن أقابله بنفسي، قال لي مستشاره أن الاجتماع سيطول ولكني انتظرت من الساعة 11 صباحًا وحتى 4 عصرًا.
بعد ساعات الانتظار انتهى الاجتماع وجاء لي مستشاره ليخبرني أن رئيس الوزراء سيقابلك، سعدت جدًا ودعوت الله أن تسير الأمور على ما يرام، وقفت معه والحراس حولنا والصحافة وأخبرته الحكاية، ونلت وعدًا منه أن يساعدني.
بعد وعد رئيس الوزراء لي بإصدار التحويلة الطبية، ساءت حالة ورد جدًا، ظهرت نسبة التميع والصفار بشكل عالي، وحين ترتفع النسبة بشكل مفاجىء، هذا يعني أن حياته في خطر، بقيت في المشفى حوالي شهر وكانت حالته تسوء، لم يستطع المشي مع السوائل التي تجمعت في بطنه، وبقي تحت أجهزة التنفس لثلاثة أيام دون حراك، وأخبرني الطبيب أن ورد قد وصل للمرحلة الأخيرة من مرضه وإن لم يجر العملية خلال شهر سيفقد حياته، وقال لي: "أنت أم عظيمة فعلت ما باستطاعتك حتى تعالجيه".
أقفلت الدنيا في وجهي، هل ستنتهي حكايتنا هكذا أنا وورد، أصابني الإحباط، وخفت أن أعاني من مرارة فقد الابن، ولكن جاءتني المكالمة الأجمل في حياتي من مكتب رئيس الوزراء تخبرني بأنه سيتم تغطية 70% من مصاريف علاج ورد في تركيا، أخبرت زوجي وأنا سعيدة جدًا، وبدأنا بتجميع باقي مصاريف السفر، وخلال يومين كان كل المبلغ متوفر معنا.
ألا يقولون تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، حدث معي شيئًا غير متوقع، قبل السفر أجريت فحص "كورونا" وإذ بنتيجتي إيجابية، حينها بكيت من كل قلبي، شهور وشهور أنتظر في هذه اللحظة وحين تأتي تضيق الدنيا عليَّ من جديد، انتظرنا ليومين وأعدت الفحص من جديد، فظهرت النتيجة سلبية، حمدت الله وبدأنا بأمور التنسيق للسفر عبر جسر الأردن. رافقني أنا وورد زوجي الذي ساندني من البداية، كنا سويًا في كل خطوة، أواسيه ويواسيني، وحين كانت تنتابني نوبات الضعف والانهيار كنت اقرأ القرآن، وأكتب مذكراتي بكل شيء حدث معنا، حتى أقرأ ما كتبت لورد، ويرى حكايته كاملة وكيف انتصرنا على المرض.
أن يكون لك أخ يدعمك بحبه وبخفة ظله لشيء عظيم، كان يمازحني دومًا ويقول: "خذي كل أعضائي الداخلية بس خليني أطش وأسافر معك"، وحين كان يرافقني في المشفى مع ورد يقول: الحياة مش مستاهلة هوني ع حالك"، تركني أخي، نعم تركني وغادر الحياة بشكل مفاجىء، وتركني في صدمتين، ابني الذي بين يدي يموت، وأخي الذي مات، يا الله كيف لقلبي سيحتمل كل هذا، واصلت طريقي مع ورد بعدها وكلما أتذكر حديث أخي لي الذي يمنحني القوة أقوم من جديد بعد كل سقوط.
في المشفى التركي ظهرت نتائج تحاليلي وتبين أن الأنسجة متطابقة مع ورد وكانت أسعد لحظة لي بأني سأكون المتبرعة بالكبد لابني. بالفعل تمت العملية في ظل توتري وخوفي على ورد، وبعد إجراءها وحين استيقظت من البنج، نظرت لورد الذي يفصلني عنه لوح زجاج ورأيته مستيقظًا، بكيت جدًا حين رأيته، دموع الفرحة بنجاح العملية التي استمرت لحوالي عشر ساعات.
كلما أتذكر رحلتي أشكر الله كثيرًا على فضله، حالة ورد الصحية ممتازة بفضل الله، ونتائج فحوصاته الطبية جيدة للغاية، والحمدلله، أصبح يأكل جيدًا ويلعب ويمشي، وفقد البطن المنتفخ الذي كان يسبب له عائقًا له، برغم كل الآلام التي عشناها إلا أنه حين يضحك يذوب كل الألم وتحل محله سعادة. حفظ الله لي ورد وحفظ كل أطفال العالم.