بنفسج

قصتي.. ميس داغر

الأربعاء 17 مايو

"معروف عنكِ أنك تجدّدين باستمرار في مفرداتك المستخدمة"، هذه الجملة قيلت لي من طفل يافع في لقاء أدبي، والواقع أنني لا أعرف من أخبره هذه المعلومة أو كيف استنتجها، أو ما إن كانت صحيحة أم زائفة، لكنّني وجدتُ فيها إطراءً مما يحب الكاتب أن يسمعه. أما عن خططي المستقبلية، لدي مسودات خطط وأفكار لمشاريع كثيرة، لكن وقتي لا يتسع لإتمامها. من بين ما يشغل مساحة في تفكيري هذه الأيام هو فن الكتابة والرسم الكاريكاتيري، وأفكر بشكل جدي في العمل على إنتاجٍ ما في هذا المجال.

طفولتي المبكرة كانت مُشاكسة، إذ كنتُ أهوى الألعاب الصبيانية وأُرافق صِبية الحيّ من أقاربي والجيران في ألعابهم ومشاغباتهم. ممّا أتذكره من تلك الفترة، أي قبل تعلم القراءة والكتابة، هو أنني كثيرًا ما كنتُ أخطّ خربشات عشوائية مُطوّلة على الورق على أمل أن أتعلم الكتابة من خلال هذه الطريقة. بمجرد أن أتقنت الكتابة في الصف الأول الابتدائي كتبتُ أوّل قصة وقرأتها لذويّ. هكذا بدأت علاقتي بالكتابة القصصية كطريقة للتعبير عما يجول في نفسي. بالنسبة لما أحب قراءته من القصص، فليس هناك نمط محدد، أحبّ القصة ما دامت مشوّقة وذات أسلوب ولغة جيدين.

وحين تعرفت للمرة الأولى على قصة احتلال فلسطين في العام 1948، كتبت قصة رمزية في محاولة للتعبير عن ما فهمته من سيرة الوطن وأنا ابنة السادسة، أتذكر أحداثها وشخوصها، ولا احتفظ باقتباسات منها. عائلتي كانت تعجب بما أكتب، لكنها لم تأخذ موضوع علاقتي بالكتابة على محمل الجد. بينما كان لمَدرستيّ الأساسية، ومن ثم الثانوية، تأثير فاعل في تحفيزي على الكتابة وإفساح الطريق لي.

"وكاد يُغمى على الخالة ثروت من فرط الضحك، وهي ترى جروين صغيرين جديدين، يسيران خلف كلبتها. واستنتجت الخالة على الفور أنّ الكلاب تتقن التطبيع أكثر من أيّ أحدٍ آخر". هذا الاقتباس أحبه من مجموعتي القصصية الأولى التي صدرت في العام 2013 وهي "الأسياد يحبون العسل". فكرة إصدار المجموعة لم تولد فجأة، بل كانت نتيجة تلقائية لوصول النصوص إلى عدد يؤهلها للنشر في كتاب.

أحب جميع أعمالي فهي لي كما الأبناء للأم لكن بإمكاني القول إنّ مجموعتي القصصية الثانية "معطف السيدة" كانت أكثر الإصدارات تعبيرًا عن ذاتي وما يجول في خلدي. في الكتابة، لا طقوس خاصة سوى أنني أفضّل الكتابة في عمق الليل، حيث الصفاء والهدوء لا يُتاحان بهذه الوفرة في أي وقت آخر. وأجمل نصوصي كنتُ في الغالب قد كتبتها بعد الثانية فجرًا.

لكن مع الأسف، مسؤوليات النهار لا تتيح لي فرصة العيش بهذا النمط المقلوب للتوقيت، لهذا السبب اضطررت إلى التعوّد على الكتابة خلال النهار، أو في ساعات المساء الأولى، مع منح نفسي حرية خرق هذا النظام بين وقت وآخر. وأنا من أولئك الذين خضعوا لسطوة التكنولوجيا فلا استخدم الورقة والقلم، فقد تعودت على أن أكتب مباشرة على الحاسوب. أستخدم القلم أحياناً في تدوين بعض الأفكار السريعة، لا غير.

وحين أُسأل "كيف تخطر لك الفكرة" لا أعرف الإجابة، أود كثيرًا أن أعرف، لكن تعلمت بالتجربة أنّ هنالك ممارسات وظروف أستطيع بتهيئتها أن أستدعي الأفكار. فمثلا، العزلة مع الانقطاع عن الانترنت، الاستماع إلى نوع الموسيقى الذي يُسمّى "موسيقى للتأمل والصفاء الذهني"، وذلك على الرغم من أنني لم أصدّق قبل تجربتها أنه يمكن لهذه الموسيقى إحداث تأثير ذهني فعلي. وقراءة الأدب، وهذه من أكثر الممارسات إيقاظًا لرغبتي في الكتابة إن كنتُ مستغرقة فيما أقرؤه. مع أنّ هذه الطريقة في استدعاء الأفكار تحمل خطورة انعكاس النص الذي أقرؤه في المقابل الذي أكتبه.

عائلتي الصغيرة المتمثلة بزوجي وأبنائي يقرؤون أعمالي. زوجي يحب ما أكتب، لكنه لا يقرأ من نصوصي سوى القصيرة، لأنه لا صبر لديه على قراءة النصوص الطويلة. أمّا أبنائي، فإنهم يحبون نصوصًا ولا يحبون أخرى، وهم لا يتورعون عن إخباري بأنّ نصًا ما مملًا أو سيئًا أو حتى ساذجًا، إن وجدوه كذلك. بهذا المعنى، عائلتي بسيطة وعفوية، ويريحني النأي إليها هربًا من تعقيدات واقع الثقافة.

ابنتي سلمى، 10 سنوات، تكتب نصوصًا وتفاجئني بها، وتذكّرني بنفسي عندما كنتُ في عمرها. مع العلم أنّ العديد من النصوص التي أكتبها وتُعجِب من هم في جيلها، لا تعجبها. أمّا فارس، 7 سنوات، فلا بوادر لديه حتى الآن تؤكد إن كان سيولي الكتابة عناية خاصة، لكنّه شغوف بسماع القصص، وكثيراً ما يجبرني على القراءة له من كتاب "قول يا طير" ليضحك كثيراً قبل النوم.

"معروف عنكِ أنك تجدّدين باستمرار في مفرداتك المستخدمة"، هذه الجملة قيلت لي من طفل يافع في لقاء أدبي، والواقع أنني لا أعرف من أخبره هذه المعلومة أو كيف استنتجها، أو ما إن كانت صحيحة أم زائفة، لكنّني وجدتُ فيها إطراءً مما يحب الكاتب أن يسمعه. أما عن خططي المستقبلية، لدي مسودات خطط وأفكار لمشاريع كثيرة، لكن وقتي لا يتسع لإتمامها. من بين ما يشغل مساحة في تفكيري هذه الأيام هو فن الكتابة والرسم الكاريكاتيري، وأفكر بشكل جدي في العمل على إنتاجٍ ما في هذا المجال.

وأقول لكل الراغبات في الدخول لعالم الكتابة، تأكدن أن تكون دوافعكن للكتابة ذاتية بحتة، منقطعة عن الشخوص وعن تقلبات الظروف. ثقن في أنفسكن ولا تعبأن بمظاهر التنمر الذكوري التي ستواجهنها في عالم المثقفين. وأخيرًا، أطمح إلى أن أَكُون نفسي في يومٍ ما. فنحن نعيش مكانًا وزمانًا يُجبرانا على أن نكون أشخاصًا آخرين.