الأربعاء 17 مايو
في زواية للعب الشطرنج في منزلي، كنت أراقب والدي يحرك قطع الشطرنج باحتراف، أنظر للقطع الصغيرة بتعمن، وأحيانًا ألمسها، لم أفهم اللعبة كطفلة أبلغ من العمر أربع سنوات، فلاحظ والدي إعجابي بما يفعل، فبدأ بتعليمي اياها وأصبحت منافسته الأولى منذ ذلك الحين. وبدأت علاقة وثيقة بيني وبين لعبة الشطرنج، لم تكن أكثر من هواية بالنسبة لي، أمارسها بين الفينة والأخرى مع والدي، حتي أعلنت وزارة التربية والتعليم عن إقامة بطولة للشطرنج، وتم اختياري للمشاركة كممثلة عن مدرستي، تدربت جيدًا ولعبت بحب، وحصلت على المركز الأول في البطولة على مدارس الوطن وذلك في عمر الثانية عشر.
علمت حينها أنني قادرة وبجدارة أن ألعب الشطرنج خارج حدود بيتي، وزاد شغفي وحبي للعبة، بعدها بدأت بالمشاركة في بطولات الاتحاد الفلسطيني للشطرنج، وكنت أحصد دائما المراكز الأولى، ثم حصلت على المركز الأول في مسابقة سيدات فلسطين، فتأهلت بعدها للمشاركة في البطولات العربية والدولية.
في طفولتي تعلقت في حلمين الطب والشطرنج، كنت معجبة بكليهما، فقررت أن أحترف اللعبة، وأدرس الطب، وبالفعل حققت الحلمين، درست الطب البشري في جامعة القدس، ثم انتقلت للعمل كطبيبة في مستشفى نابلس كطبيب عام، ثم عملت بنظام التخصص في الأمراض الباطنية في مستشفى المطلع في القدس.
الطب كالشطرنج يوجد بينهما رابط لا يمكن تجاهله وهو المثابرة، لا يمكن أن تكون طبيبًا ناجحًا دون مثابرة وسعي، كما الشطرنج تمامًا فهي ليست مجرد لعبة تمارسها وقتما تشاء، بل لكي تكون محترفًا تشارك في البطولات يجب أن تثابر وتحافظ على الاستمرارية وتطوير نفسك. حقيقة أن الشطرنج له بالغ الأثر في تنمية قدراتي على اتخاذ القرارات بطريقة رصد الاحتمالات واختيار أفضلها.
وعن الموازنة بين عملي كطبيبة ولاعبة شطرنج، أحاول قدر الإمكان التوفيق بينهما، وكنت أحرص على التواجد في كافة البطولات، ولكن أحيانًا لا يسعفني الوقت، لذلك وهذا يشكل تحديًا كبير لي.
تعلمت من ممارسة مهنة الطب أن أقدر نعمة الصحة، أما سنوات الدراسة والامتياز علمتني أن أعتمد على نفسي، وأضافت لي الكثير من المعارف والمدارك، وعقدت صداقات لا زالت ترافقني حتى اليوم. أما محبوبتي الأولى فقد كان لها دور كبير في تحديد أي خيار لي في الحياة، والموازنة بين سلبيات وإيجابيات أي قرار، ثم إعادة التفكير مطولًا والتأني في الاختيار، وهذا أبرز ما منحته لي اللعبة.
تعرفت من خلال الشطرنج على الكثير من الأبطال محليًا، وعربيًا وعالميًا، والتعرف إلى الكثير من الثقافات والبلدان التي تمكنت من زيارتها، ومنها كوريا الجنوبية، أذربيجان، جورجيا، النرويج حيث تحصلت فيها على لقب "أستاذه اتحادية"، وزرت العديد من الدول العربية، أبرزها قطر، سوريا، الأردن، والإمارات العربية المتحدة حيث تحصلت بها على برونزية الجامعات العربية.
ذكريات السفر والمشاركة في المسابقات كانت من أجمل المراحل بالنسبة لي، ومن المواقف الجميلة التي أذكرها مفاجأة الفريق الفلسطيني ليَّ في أحد البطولات في كوريا الجنوبية والاحتفال بيوم ميلادي ال 21، وكل ما أتذكر الموقف ابتسم.
"لا يوجد فوز دون خسارة وهذه معادلة حتمية"، الفوز والخسارة متلازمان، لا يمكن أن نجرب قيمة الفوز وطعمه دون تجربة الخسارة، فكلاهما حتمي ووارد. الخسارة تعني أن نستدرك الأخطاء ونثابر أكثر، والأهم أن نتجنب الغرور ونأخذ اللعبة دائما على محمل الجد. بعد انشغالي في عملي كطبيبة أصبح وقت فراغي ضيقًا جدًا، ومع ذلك أطور من نفسي وأمارس اللعبة عبر الإنترنت، وهذا لا يغني عن المشاركة في البطولات بشكل مستمر، ولكن مع جائحة "كورونا" توقفت البطولات.
أحب أن أدرب محبي الشطرنج، ولكن حاليًا ليس لدي أي تصورات لعقد دورات بشكل دائم، بسبب ضيق الوقت، وأفضل أن استثمر وقتي القليل في اللعبة نفسها وممارستها كلاعبة وليس كمدربة، ربما في المستقبل تسنح لي الفرصة لافتتاح مشروع لتعليم الشطرنج للصغار. لكل منا شغفه في هذه الحياة مع اختلاف الوجهات، لذلك تمسكوا بأحلامكم، وطوروا قدراتكم باستمرار، سواء بالشطرنج أو غيره، حتى لو كانت إمكاناتكم محدودة حاولوا، ولن تخسروا شيئًا.