بنفسج

قصتي.. لينا ابو فرحة

الأربعاء 17 مايو

أقول لكل فتاة بعد تجربتي في المناظرة واختلاطي بالعديد، "كوّني شبكة علاقات اجتماعية، لكن أوصيك أن لا تتخاذلي يومًا في دراستك، بذريعة أن الشهادة الجامعية لم يعد لها أي فائدة، العمل الجاد يؤتي أُكُله، الآن أنا على أبواب التخرج بتقدير امتياز، أغلق باب المرحلة التي فتحت لي أبوابًا كثيرة، التحدي هو خلق توازن بين تخصصك وما ينتظره منك، وبين ذاتك مهاراتك التي بحاجة دائمة للصقل والاكتشاف والتطوير".

كلّ شيء بدأ من إذاعة المدرسة، علمت أهمية الكلمة، وقدرتي في الوقوف أمام الجمهور، وامتلاكي لملكة الخطابة، والقدرة على التأثير. مرت الأيام وكبرت ودخلت جامعة بيرزيت التي كانت حاضنة حقيقية. وبدأت حكايتي مع المناظرة، من خلال تمثيل جامعة بيرزيت في الفريق المشارك في البطولة الدولية الخامسة للمناظرات بالعربية، تحت رعاية مركز مناظرات قطر، والتي ضمت مناظرين من كل أنحاء العالم.

قبل ذلك، أود أن أخبركم عن الخذلان في الثانوية العامة، وحصولي على معدل أقل مما أريد، وهذا كان بداية الحياة، "الفشل" مدرسة حقيقية، مع تحفظي على تسميته فشل، ولكنه كان "عدم نجاح، محاولة للنجاح"، كنت واقعة تحت ضغط مجتمعي، كوني كنت طالبة في الفرع العلمي، وذلك يضعني في صندوق جاهز يحتم عليّ دراسة تخصص علمي فقط، أنا وغيري من زملائي، كتصنيف جاهز لشخصياتنا وآمالنا وطموحاتنا هو أمر مرفوض تمامًا ويجب أن لا نستسلم له. لذلك قررت دراسة القانون، على الرغم من إمكانية دراسة التخصصات العلمية لأنني قررت اتخاذ عقلاني في تلك الفترة على الرغم من صعوبتها والتخبط في حينها.

قرّرت دراسة القانون في جامعة بيرزيت، كبداية حقيقية لنجاحات قادمة حتمًا، وفي الفصل الأول في الجامعة، عزمت على الحصول على مرتبة الشرف كردّ اعتبار لنفسي أولًا بعد الخذلان السابق، وبالفعل حصلت، ثمّ توالت النجاحات سواء الأكاديمية أو غير الأكاديمية. ومع كل تجربة، أتذكر تجربة التوجيهي، وأنظر إليها، وأنا ممتنة جدًا لما تركته فيّ من عزمٍ وتصميم على النجاح المستمرّ وعدم الاستسلام.

أؤمن بأن الفرص قد تأتي بمحض الصدفة بدايةً، ولكن يقع على عاتقنا بعدها أن نثبت جدارتنا واستحقاقنا بها. عندما سمعت نية جامعة بيرزيت للمشاركة في البطولة الدولية الخامسة للمناظرات، بالعربية، في الدوحة، لم أتردد في الالتحاق فورًا للاختبارات التي أجرتها الجامعة لاختيار الفريق الممثل لها في تلك البطولة. وبالفعل تمّ اختياري بعدها لأكون من ضمن الفريق الممثل لجامعة بيرزيت في البطولة.

كان الفاصل الزمني بين قرار المشاركة والبطولة قصيرًا، ممّا زاد من كثافة العمل والتحضير والشعور بالمسؤولية للمشاركة في محفل دولي ضخم، كان التدريب مستمرًا على فنون المناظرة وآلياتها، الخطابة، العصف الذهني، التفكير النقدي، القراءة والتحضير المسبق في مختلف المجالات لتكوين ثقافة تؤهلنا للتناظر في أي موضوع يُطلب منّا قبل جولة المناظرة بوقت قصير! نخبوية الحدث وضخامته حتّمت علينا حينها العمل بكل ما أوتينا من شغف تجاه المناظرة.

تلك التجربة كانت درسًا حقيقيًا في تقبل الآخر واحترام الاختلاف، التحريض على فهم الرأي الآخر وتبني موقفه في كثير من الأحيان، ليس الأمر زعزعة للثوابت والمسلّمات، ولكنه على الأقل، إيمان بأنّ للحقيقة أوجه كثيرة علينا احترامها، في هذه التجربة آمنت أكثر بفن المناظرة وقدرتها على صنع الفرق الحقيقي.

دراسة المحاماة خدمتني في المناظرة والمناظرة خدمتني في المحاماة. المناظرة؛ فن ومهارة حياة، حتمًا كانت ستشكّل قيمة إضافية بالنسبة لي حتى وإن كانت أدرس الفيزياء! لأنها تدرب على التفكير النقدي، اختبار وممارسة حقيقية لثقافة الرأي والرأي الآخر، بعيدًا عن الكليشيهات المكررة. في المناظرة التنافسية يطلب منك تأدية دور (الموالاة أو المعارضة لموضوع معين).

من المحتمل جدًا أن يتعارض مع موقفك الشخصي تجاه هذا الموضوع، ممّا يجعلك تضع نفسك تلقائيًا مكان الآخر والتفكير في الأمور في منظوره تجاهها، لعلّ هذا التحدي في المناظرات التنافسية هو أكثر ما يمكن أن يصنع التغيير في شخصية المتناظر، لأن الأمر أكثر من مجرد بطولة أو تنافس، فهو يستمرّ معك حتى خارج قاعات المناظرة، ليصبح أسلوب حياة.

يوجد علاقة قوية بين المحاماة والمناظرة، وعلى الرغم من جمود القوانين وحرفيتها، ولكنّ عمل المحامي بالضرورة يتطلب المرونة في التفكير والأداء، وازداوجية الأدوار التي تُطلب من المتناظر، هي ذاتها مطلوبة في عمل المحاماة. كلّ ما في الأمر أن للحقيقة دائمًا وجوه عدة، وعليك أن تتمسّك بالوجه الذي يدعم موقفك. كما أن عمل المحامي يقتضي أن يتمتع بثقافة عالية واطّلاعٍ واسع في مختلف المجالات، وهذا أمر مكتسب بديهيًا لدى المتناظر بحكم تناظره في مختلف القضايا.

أثرت المناظرة على حياتي اليومية، أدركت أن الحقيقة ليس في رأس رجل واحد، أصبحت أكثر مرونة في التعامل مع الآخرين وفي تقبّل آرائهم، أقل حدية في النقاش. لأني مع كل قضية جدلية أتخيل نفسي مناظرة حقيقية، لدي مهمة أداء دور من يختلف معي في الرأي/ خصمي، وكيف يمكن لي حينها أن أفكر بحجج وبراهين تدعم موقفي، ثم أتفهمه تلقائيًا.

كما أن الالتقاء مع متناظرين من حول العالم، بتجارب وقصص مختلفة، إذ لديّ رغبة شديدة في نقل تجاربهم وإسقاطهاعلى سياقنا الفلسطيني وتجربتنا المختلفة، أسعى لتطوير مجتمع المناظرات الفلسطيني وتدعيمه بالتجربة الدولية بالمناظرة، انضممت إلى أكاديمية النخبة الدولية التابعة لمركز مناظرات قطر، حيث تضمّ نخبة من المتناظرين حول العالم الذين يسعون لنشر فن المناظرة في بلادهم. التقيت بطاقات شبابية رائعة من كل العالم جعلتني أؤمن بأنّنا حتمًا نستطيع أن نكون جزءًا من غد أوطاننا الأفضل.

أقول لكل فتاة بعد تجربتي في المناظرة واختلاطي بالعديد، "كوّني شبكة علاقات اجتماعية، لكن أوصيك أن لا تتخاذلي يومًا في دراستك، بذريعة أن الشهادة الجامعية لم يعد لها أي فائدة، العمل الجاد يؤتي أُكُله، الآن أنا على أبواب التخرج بتقدير امتياز، أغلق باب المرحلة التي فتحت لي أبوابًا كثيرة، التحدي هو خلق توازن بين تخصصك وما ينتظره منك، وبين ذاتك مهاراتك التي بحاجة دائمة للصقل والاكتشاف والتطوير".