الثلاثاء 13 يونيو
تعلمتُ من سيدي يوسف، عندمَا يُلـقى بِك في غياباتِ الجبِ. ليالٍ قاسيةٍ عشتها وحيدًا متدثرًا بثوبٍ خفيف بعد أن نُزعَ ثوبُـك، واستُعملَ أداة شهادةٍ على خطيئةِ الذِئب البريء. ثُم اشتريت بثمنٍ بخسٍ والشاري غريبٌ والقابِض إخوة الدم والصبغيات. تلِجُ قصر العزيز وحيدًا غريبًا لا يُعرفُ عنكَ سوى أنكَ من كنعان، لم يدرِ أحد حينها أنكَ كريمٌ ابن كريمٍ ابن كريمٍ ابن كريم. تأتيك فتنةٌ هنـاك تـراودكَ عن نفسـكَ، ولولا أن رأيـتَ برهـانَ ربك لكـدتَ تركنُ إليهـا وتميل.
تأتيـك التُـهمة ثم تنأى عنكَ... تُقطعِ النسوة أيْديهن وتزداد خيوطُ الفتنة التفافًا حولك، تَلج السـجن كاستجابة دعاءِ أن يصرف عنك ربك الأذى. ثم إذا تعاقبت السُنون وبدتَ أنسامُ العِوض تداعب خاطرك، وأقبلت عليَـك شمسُ الحقيقة متلوةً في "ٱلْـَٰٔنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ"، وَرُزقتَ مقامًا عليًّا بعد أن فزت في الامتحان وأجبتَ على كل الأسئلة.
كانت كلُ "س" قاسية وكانت "ج" صابرة موقنة. كل الأسئلة سبَبها خذلانُ من لا يرجى منه ذلك! خطايا إخوتكِ دفـعتَ أنتَ ضريـبتها وتجرعـتَ أنت مـرارتها وخُضتَ أنت وعثاءها ..ثـم مـــاذا؟ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ".
تـرى مجددًا ذاك الرهط من الفتية الذين أصبحوا شبانًا وشيوخًا ..خالـطت آثامهم شيبَ لِحاهم، يعاد المشهد في ذهنك عبر تقنية flash back. ترى مشـهد الظلم بسرعة، لقطات متـراكبة متـعاقبة مـتتالية، تثير في الدماغ ما يُعرف في علِم النَّـفس الاكِلينيكي ب reviviscence ، أي إعادة عـيش اللحـظات المزعـجة و المحـطِمة بنفس الشعور الذي عيشت به سابِقًا، ترواغـهم وتجـلب أخاك إلى قُربك في فخٍ محكم أنبأك به الحكيم العليم، (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ).
يخبرونك أن بنيامين إن سرق (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، وتكون أنتَ المقصود حينها، ترى الكذب في أعينهم. مستمرين في الغي طوال هذه السنين بدون ملل أو هوادة. لم ينقطع أذاهم عنكَ بعد كل ما بدر وما آل إليه مآلك. ثم مـــاذا؟ تأتي لحظة الحقيقة! لحظة المواجـهة والمصـارحة بعد أخذ قسطٍ من الراحة من لعبِ الشطرنج على رُقعةِ الواقعِ. "قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ "، قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ".
كلمتانِ ٱسـدل بهما الستار عن الحكـاية ووُضعت بهما جميع الأوراق على الطاولة ..طاولة فرقتْ أبناء النبي بدل أن تجمعهم، فقط لأنهم كانوا يقولون: "لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا".
وهنا يأتي مشهد الإعجاز.. مشهد العفو الأبدي المخلد ذكره في القرآن: "قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ". "قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ". جملتان متعاقبتان، قالوا فقال .. لا( فاصلة) بينهما.. لا ("واء" العطف) بينهما .. لا (فاء الترتيب والتوالي) بينهما.. لا (ثم الترتيب والتراخي) بينهما.. لا عتاب بينهما .. لا لـوم.. لا لـولا.. لا ليـت.. فكان أعظم مشهد صفحٍ دونه التاريخ بين دفتي القرآن، يعقب أعظم ظلمٍ متعاقبٍ ناله نبيٍ من أقرب الخلق إليه.