الثلاثاء 13 يونيو
"عمر هداك الولد بضايقني بالمدرسة".. كنا بالصف الخامس وقتها، في طفولتنا لم أكن أحتاج إلا أن أشكو له ما يهمني؛ فيقف بالمرصاد لكل من يزعجني. شقيقي عمر و"شقّة التوم" كما تنادينا والدتي.. أنا تسنيم، شقّة تومي هو عمر مشهور حمدان، الذي بلغت وإياه قبل شهر وبضعة أيام ال ٢١ عامًا. وهو في سجنِ عوفر، يدرس في جامعة بيرزيت تخصص محاسبة، وهو إلى الآن من تاريخ 20 تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٢ معتقل في سجونِ الكيان الصهيوني.
شقيقي وحبيبي العُمر، ذاكرةُ قلبي مُثقَلة بكل الذكريات معه ومنه. كنا نصفه بِ "الحِمش"، أخته ووالدته-على قولته خط أحمر- وهكذا يتعامل مع كل أفكاره ومبادئه، فما يُؤمنُ به، أيضاً خط أحمر. عُمَر سريع الانفعال، سريع الردّ، لا ينتظر إذا مُسَّ أحد أو شيء بما يَخُصّه.
وفي المقابل، عمر يُحبّ التجربة، يحبُ المغامرة، يعشق الجديد الذي يضيف إليه، جبال وسهول قريتنا ترمسعيا هي أماكنه المفضلة، قلّاية البندورة والشكشوكة على نار الحطب بالجبال المنقطعة هي ألذ أكلاته، كانت هذه الجبال وهذه القلاية ملجأه للهروب من ضغط مسؤولياته الشخصية.
ما يُميّز علاقتي مع أخي عُمَر، هو التكامل الذي شعرنا به وما زلنا نشعرُ به، ومَن حولنا يشعرُون به! فنحنُ التوأم، الذكر والأنثى، عمر وتسنيم، المليئون بالتجارب، كلٌ حسب شخصيته ومكانه واهتماماته واختلافه، نخزّن هذا كلّه للحظة لُقانا، ثم نصبّه على بعضنا صباً. فعلاقة أخوّتنا تجاوزت حد الأوامر والطاعة المجرّدة كما يُصوَّر لعلاقة الأخ مع أخته، فأنا أرى أن ما يطلبه مني عُمَر هو واجبٌ عليّ، وهو يرى أن ما أطلبه منه هو فرضٌ عليه، وكله تحت إطار الحب والعناية والمساعدة والخوف، والكثير من التشاور والفهم.
ضحكنا وفرحنا، بكاؤنا وحزننا، يأسنا ومحاولاتنا وجهادُنا، همّتنا وطاقتنا، لم نكن نستطيع تجاوزها كلّها إلا معاً، في حديثِ الليل سراً، بعد يومٍ مُثقَل بالأحداث، يجمَعُنا هذا الأُنس، وكلّه عبارة عن تعلّمٌ وتعليم، يرتقي بي بتجاربه، وأرتقي به بتجاربي، يُريني ما لا أراه، وأُريه ما لا يراه، وتكتمل الحكاية!
مضى على اعتقاله 7 أشهر وبضعة أيام، والكثير من اللحظات والأحداث التي كانت لا تكتملُ إلا به ومعه، وكلّي حنينٌ وشوقٌ لكلِّ هذا الأُنس المفقود، بكلّ موقفٍ أمرُ به، أحادث نفسي (لو كان عمر هون كان حكالي هيك هيك)، (تسنيم اعملي هيك)، (تسنيم أوعك تحكي هيك) (طورور- لَقَبي المميز منه- ديري بالك مش الكل زي ما بتفكري).
لا أستذكر سوى كلمات أنشودة "أخي لا تقلّ راحلٌ". (أخي لا تقل فأنا لا أُطيق سواكَ أنيساً لهذا الطريق، وذرني بقلبكَ دوماً أنامُ على حُبكَ وأفيق.. أخي يا من علّمني، أخي يا من فَهمني، أسيرُ بدربي وأدعو لربي ولا أخشى في ذاكَ إلا ربي). لا أنسى لحظة الاعتقال، عندما اقتحم الجنود البيت، استيقظتُ ليلتها على صوت الضجة أمام غرفتي وصوت عمر وهو يصرخ على الجنود أن لا يدخلوا إلى غرف نومنا أنا ووالدتي، ثم نادى بأسمائنا حتى اطمئنَ أننا بخير، وحاولَ الجنود إسكاته.
ومن أصعب وأقسى اللحظات، هي الزيارة الأولى لنا عنده في السجن، وكانت بعد 3 أشهر من اعتقاله، ذهبنا إليه مع كل المشاعر التي حملناها معنا من كل إخوانه وأحبابه بالخارج. وعند أول "بروتوكلات" الأسر المعروفة عند أهالي الأسرى، صُدمنا، فهذا الكيان الصهيوني لم يترك فُرصة واحدة ليُشعر أهالي الأسرى أنهم أيضاً أسرى ومسجونون مع أولادهم وأحبابهم، مهما حاولوا!
حتى وصلنا إلى آخر "بروتوكول"، عند تجمّع فوج الأهالي الثاني كاملةً في غرفة صغيرة، وبلا مبالغة.. قُطِعَت الأنفاس من ضغط العدد، كانت طاقتنا قد استُنزفت تماماً، حتى فُتِحَ آخر حاجز بيننا وبين الأسرى، وكلّنا بدأنا نهرولُ باتجاه حبيبنا المُغَيب. في أقل من اللحظة، نسينا كلّ الظلم والقسوة والسجن الذي كان قبل ثوان، والعيون فقط تبحثُ عنه حتى وصلنا إليه، وقفنا أمامه أنا وأمي وأبي-وما زال بيننا حاجزٌ زجاجي لا نستطيع تجاوزه- وعيونُ عُمَر وعيوننا تدمع وابتسامته وابتسامتنا تطغى على دموع عجزِ اللحظة، ثم بعد امتصاص صدمة المشهد. بدأنا الحديث معه بواسطة الهواتف القديمة الموجودة، لم نستطع سماع صوته صافيًا بسبب خرخشة الهاتف.
فهذا هو العُمَر، رقيق القلبِ، ورقراق الدمعِ، شديدُ الانفعالِ، وسريعُ الرد، حافظُ المبدأ، والسائرُ عليه، والمحاولُ في سبيله. فاللهمّ قُرّ عيوننا بحريته، وعيون كل أهل أسير بحرية أحبابهم!