يقولون ما بين الرقم صفر وواحد هناك العديد من الأرقام التي لا تنتهي، وأنا أقول ما بين الماضي والحاضر والمستقبل هناك العديد من الأيام التي وَلّت، والعديد من الأيام التي ما زالت حتى اللحظة أعيشها على وقع الجراح، ومستقبل يأخذنا بيده إلى المجهول، فمن يتحكم بماضيه يصنع حاضره ومستقبله، من منا يعلم موعد العاصفة لكي يقف على قارعة الطريق، فيتنحى جانبًا ويسمح لها بالمرور قبل أن تقتلعه معها فيصبح نثارةً في مهب الريح؟!
كأي طفلٍ داخل المخيم نما عالمنا أنا وأحمد، وكأي شيء خلقه الله في بلاده الواسعة لم نكن نحلم بأكثر من حياة طبيعية، نتخرج من الجامعة بالتخصص الذي نحبه، نتزوج ونعيش في بيتٍ يحنو على ساكنيه بالجمال، لكن تجري الأمور غالبًا على غير ما نريد، كأن الطريق الذي تسلكه إلى غايتك ما إن تسير فيه بضعَ خطوات حتى ينفتحُ فجأةً ليوقعك في حفرة القدر.
وما من أحدٍ يعلم ما تخبئه له الأيام وقدرها سوى خالقها، ومع ذلك ما من أحد يستطيع أن يختبئ من قدر الله، ما من أحد يستطيع أن يحوّل غدو الرياح ورواحها سوى الله، وفي النهاية حين لا نملك شيئًا سوى أن نتقبل أمر الله، نتقبله راضيين، مستسلمين لمشيئته بأن كل شيءٍ عنده بمقدار وبأن كل مصيبةٍ إلى نهاية، وأن كل امتحانٍ وابتلاء له أجر، وبأن نار الحق حتمًا ستحرق شجر الباطل.
كنت أرى صورًا من هدايا الأسرى لزوجاتهم على صفحاتهم، إذ كانت تشارك تلك الصابرة الجميلة صورة مِسبحة أو إسوارة صُنعت بكل بساطة العالم بأيد أشد صبرًا وجمالًا، وتحكي كيف لهذه البساطة أن تُحيي فيها أملًا وتقيم بها حبًا وتجدد بروحها عزيمة واندفاعًا لتكمل المسير، كنت أرى وأقرأ ويتألم قلبي لتلك التي لا أعرفها يارب كيف يتحمل قلبهن هذا الفراق! يارب لله درهن وإخلاصهن، يارب لكل قدر حكمة، فلا تطل عليهن البلاء، واجعل الخير في ما تتمنى قلبهن..
كنت في حينها أقبض على يدِ أحمد سائلة الرحمن أن لا يبتليني فيه قِيد أُنمُلة، لأني أعلم أن لكل شخص منا "إلا"، وفي غالب الوقت يُبتلى العبد في "إلاه" حتى لا يكون لأحد سكونًا مع غير الله تعالى.
اقرأ أيضًا: لم يكن هينًا: قالت زوجات الأسرى
قبل عامين وثلاثة أشهر من الآن، خرج أحمد صباحًا من بيته متجهًا إلى أبو ديس ليُنهي أمور إعادة التحاقه بجامعته هناك، لإكمال دراسته التي أوقفها فترة من الزمن بسبب تحضيراته لخطوبتنا وزواجنا، ولكن شاء الله في طريق عودته أن يتعرض لحادث سير نُقل على إثره إلى مشفى شعاري تسيديك جريحًا، ثم إلى معتقل عوفر أسيرًا، يواجه بمحاكمها تهمة محاولة القتل العمد مستندين بذلك على شهادة جنود تحت غطاءٍ قانوني، يعتبر شهادة الجنود شهادة ملكية، ولا حاجة لاعتراف المتهم البريء، كبراءة الذئب من دم يوسف، وبغرامة مادية تصل إلى 50 ألف شيقلًا.
وما زالت الأيام التيّ ولّت حتى اللحظة يعيشها أحمد على وقع الألم نتيجة الصدمة النفسية بفعل الحادث، وتلاها إطلاق الرصاص، يعاني على إثرها التهابات قوية تفاقمت على مدار الشهور الماضية نتيجة سياسة الإهمال الطبي المتعمد، حيث اضطر لاستخدام ورقة الضغط الوحيدة الموجودة لدى الأسير وهي طلب النزول للزنازين، لتأتي الموافقة على إجراء الفحوصات والصور اللازمة، وأُجريت صورة الألتراساوند لتأتي النتيجة بتضخم عال للبروستات، نحن على يقين بأن الله وحده هو الشافي، وأنه جل في علاه كان شاهدًا على كل شيء وأنه وحده كان يراقب ووحده القادر على أن يحدث بعد ذلك أمرًا.
الآن، أصبحت واحدة ممن كنت أدعو لهن وأستعجب قواهن ابتُليت حتى لا أتعجب من قدر الله، وأن أقدار خالقي الجبار لا تنزل إلا مصاحبة بلطف يثبت على العقول إيمانها وشتاتها.
أعلم جيدًا أن الحياة التي تدور بنا ليست كما يُقال عنها، فالحياة ليست كحلقة مغلقة مُستَمِّرة الدوران، الحياة قفص أو سجن، أو ربما غرفة مغلقة! العجيب في الأمر أن لا أحد منا يستطيع أن يختار طبيعة هذا القفص، أو السجن، فالأشياء التي قد فٌرِّضت علينا كثيرة، ولم يكن بِمقدورنا أن نغير فيها شيئًا، فلا عَليكم من كلام المتفائلين، بأن كل ظرف بيدنا أن نغيره، هذا الكلامُ قد يجعلنا نشعر بالعجز حينَ نعجز عن تغيير هذا الظرف، لكنني عَلى ثقة ويَقين بالله بأنَنا سَنكونُ معًا قريبًا جدًا.
الآن، أصبحت واحدة ممن كنت أدعو لهن وأستعجب قواهن ابتُليت حتى لا أتعجب من قدر الله، وأن أقدار خالقي الجبار لا تنزل إلا مصاحبة بلطف يثبت على العقول إيمانها وشتاتها ويخبرها بأن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟ فاللهم كما رددت يوسف ليعقوب دون حول منهما ولا قوة وكان هيّنًا عليك جمعهما، اجمعني وأحمد قريبًا بحولك وقوتك ولطفك.. نشهدك بأنا رضينا.. نشهدك بأنا نصبر.