كثيرًا ما نحتار بشأن أيام الشباب، فتارةً نشعر أنّها أكثر الأيام إنتاجًا وأملًا، وتارة نحس أنها أيام صعبة مليئة بالخيبات والإحباطات، لكنّ الحقيقة هي أن هذه الأيام لا تخصّنا بمفردنا. لكل فئة عمرية منفعة تقدّمها لمجتمعها: لا شك أن كلامي السابق مستغرَب، فكيف تكونُ أيامنا الخاصة بنا ملكًا لغيرنا في الوقت ذاته؟
لو أنّنا في حالٍ أقرب للمثالية، وأبعدَ عن الأنانية والتمحور حول الذات لأدركنا بسهولةٍ أنّ المُراد من الحياة، والهدفَ منها هو ألّا يعيش الإنسان لنفسه فقط، بل أن يعطي ويأخذ للجميع ومن الجميع، فرغم أن انتماء الناس لأوطانهم في تناقص، ورغم حلم الأكثرية بالهجرة، إلّا أنّ المعنى الأكمل للوطن يكمن في حرص أبنائه على بعضهم، وعلى بنائه، وصَبّ طاقاتهم وما ينتجُ عن أحلامهم وأعمالهم في مصب مصلحته الكبرى. لا يتعلق ذلك بفئة عمرية واحدة، فالوطن يحتاج جميع الفئات العمرية، لكنّ المؤكد أن فئة الشباب بالذات هي الفئة التي يُتوقَع منها أكبر فائدة.
أهمية مرحلة الشباب عامةً
إن قسّمنا عمرَ الإنسان، وشبّهناه بموضوع تعبير، فستكون الطفولة مقدمة الموضوع التي لا يستقيم بدونها، وستكون الشيخوخة خاتمةً مشرفة إن سبقها عمر مشرف، وسنلقّبها حينها بسنّ الحكمة، لا بالشيخوخة. وبناء على ذلك، فالمتن، وصلب الموضوع، وعرضُ الأفكار، ومناقشة مغزى الحياة ثم إثباته، كلّ هذا سيجتمع ليتلخص في مرحلةٍ واحدة، هي مرحلة الشباب، إذ أنها المرحلة الأكثر فاعلية _غالبًا_ بين مراحل عمر الإنسان، ليس فيها ضعف الطفولة أو ضعف الكبر، بل عليها يُعوَل ليختبر الإنسان أحلام الطفولة فينفذها أو يختار غيرها، وعليها يُعول ليعدّ لأواخر أيامِه وليترك لنفسه ولغيره أثرًا مهمًا.
ففي الشباب النشاط، والدراسة، وفيه العمل، والسفر للتعلم، فيه التدرّب، والسعي، وممارسة الهوايات وتعميق العلاقات مع أشخاص مُختارين بدقّة. إن لمرحلة الشباب أهمية خاصّة على صعيد الوطن فهي مرحلةٌ مُنتِجَة ومشتعلة وحماسية مثل الشباب من البديهي أن يهتمّ بها الوطن _أي وطن_ وأن يعوّل عليها، كما يعوّل أصحابُها عليها.
اقرأ أيضًا: فضفضة شبابية: عن تخبطات مرحلة الشباب وأشياء أخرى
في الشباب، يسهل أن يلهو الشّاب أو الشابّة، يسهل أن يتسلّيا، ويكرها بلادهما ويحاولا تركها، كما يسهل أيضًا أن يتمردوا ويرفضوا أفكارَ مجتمعهم، لكنّ الصعب الذي يجعل من هذا الشاب أو الشابة نافعَين عظيمين، هو أن يتمسكا بالوطن، رغم أوجاعه وما يقاسونه فيه، الصعب والمطلوب هو أن يعرفا على ماذا يتمردان، فلا ضير في رفض التقاليد الخاطئة، لكنْ دون طلاقٍ للهوية والثقافة بل باعتزاز بهما.
اصنع فرصة
هل نعني أن نصادرَ أحلام الشبّان، ونجبرهم على البقاء في أوطانهم رغم أن مستقبلهم قد يكون خارجها؟ لا يمكن أن ننكرَ أن صنع مستقبل في بلادنا العربية أمر صعب، وأن تسهيلات بناء هذا المستقبل ليست متوفرة، على العكس، تتوفر العقبات والعراقيل، نحن لا ننكر ذلك، فهل يعتبَر حديثنا متناقضًا؟ الحقيقة أن أحوال عصرنا متناقضة بحد ذاتها، ولذا يصعب أن تصحّ فكرةٌ ما بالكامل أو تكون الفكرة المعاكسة لها خاطئة بالكامل، ولا يتبقى لنا هنا إلّا خلط الفكرتين وخلق توازن بينهما كيلا يُظلَم الفرد، وكيلا يُظلم الوطن والمجتمع.
المستقبل في أوطاننا صعب، لكننا نزيده عتمةً إن كان خيارنا جميعًا هو التخلي، ففي حين يستحيل على البعض الإنجاز داخل أوطانهم، لا بد أن يتشجع آخرون ويقدّموا تضحية البقاء والإنجاز بقدر ما يستطيعون. ويمكن أن يكون الحل الوسط هو تقديم نواتج الإنجازات لأوطاننا أينما كنا ولو مكثنا في الخارج، وذلك بالاهتمام بأهالينا الماكثين في أوطانهم، بدعمهم ماديًا ومعنويًا، وبمحاولة صنع فرصٍ تخدم الأطفال والناشئة، بحيث يستطيعون عندما يكبرون أن يحققوا مستقبلًا أفضل دون الاضطرار للاغتراب.
اقرأ أيضًا: عكس " الترند": عن شعور الغربة فينا!
كما يمكن للشاب أو الشابة اللذين يفكران بالسفر للدراسة، أو العمل أن يضعا ضمن خطتهما الرجوع لوطنهما الأصلي قبل انقضاء فترة الشباب، بحيث تُقسَم بعدل بين مصلحتهم الخاصة، ومصلحة وطنهم ومجتمعهم عامة. أما الشباب المقيمون في أوطانهم، فلعلّ التحدي الأكبر أمامهم هو عدم الركون للصعوبات، هو محاولة التقدّم وإن صَعُب، أو استحال أحيانًا، وعدم اتخاذ ظروف أوطانهم حجّة إلّا حين تصدق هذه الحجة، هو محاولة الإنجاز رغم المساحة الضيقة للإنجاز ومهما ضاقت تلك المساحة.
ماذا يمكن أن يقدّم الشباب لبناء أوطانهم؟
السؤال يبدو صعبًا والمهمة تبدو مستحيلة، وفي ذلك شيء من الصحة، لكنّ ذلك لا يعني أننا لا نستطيع تقديم شيء على الإطلاق، فالمجالات التي يمكن أن ننجز فيها مختلفة ويمكننا اختيار ما نحبّ من بينها.
| محاولة ألّا نكون عبئًا على وطننا: ربما كان من الأنسب أن أختم بهذا البند، لكنني أحسسته البند الأهمّ ولذا بدأت به، فإن لم يُكتب لنا الإنجاز، ولم نستطع في فترةٍ ما أن نتألق وننجح، فحسبنا _على الأقل_ ألّا نشكّل عبئًا. كثيرًا ما تساءلت، ماذا يمكن أن أقدم وأنا لست بذاك التميز أو العظمة؟ ولأنني وجدت الجواب قررت مشاركتكم به، لن يكون الجميع عظماء، لكنْ لعله من واجب الجميع ألّا يكونوا أعباء تثقل أنفسهم، وغيرهم وتعطّل الآخرين عن أداء واجباتهم بدورهم، لذا، وبالعبارة الدقيقة: ما لم تكن نافعًا حاول ألّا تضر.
من الضروري لتحقيق هذا البند أن نهتم بصحتنا العقلية والنفسية، ونحاول معالجة وشفاء أي مشكلات طفولية مترسّبة أو أخرى حديثة النشأة، فأهمّ ما نهديه لنا ولأهالينا وأوطاننا هو ألّا نكون مضطربين كسولين ومحتاجين لمن يقوم بشؤوننا، من حقنا أن نمرض ونتعب لكن دون إطالة مدة التوقف والاحتياج، وإلا أصبحنا عالات وذلك أشد ما يسيء للوطن.
| الدراسة والعمل في مجالات نحبها وتناسبنا: كي لا نضيف إلى الفاشلين فاشلًا جديدًا علينا الاهتمام والتريث والتدقيق قبل الالتحاق بدراسة أو عمل، حسن الاختيار وقائي، ومن بعدِه قد نصل إلى الإبداع، إلّا أن الخطوة الأولى هي إحسان الاختيار. علينا هنا ألّا نختار مهنة أو دراسة لمجرد لمعانها المجتمعي أو بالاعتماد فقط على مكاسبها المادية، بل يجب تحقيق التوازن بين كل ذلك، وأن يكون السبب الأول هو إجادتنا لما سندرسه ونعمل فيه طيلة حياتنا.
من المحمود والمطلوب أن نعمل على أنفسنا فنهذّبها ونعلّمها، بحيث يصبح كل فرد منا مثقفًا مطلعًا محاورًا قارئًا ناجحًا وقادرًا على إثبات ذاته بعلمه وخبرته واطلاعه الواسع بما يعود عليه بالنفع وعلى اسم وطنه.
| الشجاعة لاتخاذ قرار التغيير الواعي: وإن حدثَ ولم نتوافق مع اختيارنا أو أخطأنا فيه لعدم وعينا في البداية؛ فعلينا امتلاك الشجاعة الكافية والإقدام اللذين يؤهلاننا لاختيار موقع جديد صحيح هذه المرة، سمة الشباب المميزة هي روح المغامرة وشجاعة البعض على القول بإن اختيارهم كان خاطئًا، ومن ثم تغييره رغم الصعوبات هي شجاعة محمودة وتقي الوطن من الاستمرار في مجالٍ لا يناسبنا ولا نبدع فيه.
| التطوع في مختلف المجالات: يمكننا أن نتطوع لخدمة أوطاننا في شتى المرافق عندما نعيش فيها، وأن نتطوع للحديث عنها وشرح أوجاعها وقضاياها أينما كنّا بحيث تكون هي قضيتنا الأولى وإن اغتربنا.
| التعلم والتثقف المستمران: من المحمود والمطلوب أن نعمل على أنفسنا فنهذّبها ونعلّمها، بحيث يصبح كل فرد منا مثقفًا مطلعًا محاورًا قارئًا ناجحًا وقادرًا على إثبات ذاته بعلمه وخبرته واطلاعه الواسع بما يعود عليه بالنفع وعلى اسم وطنه.
اقرأ أيضًا: تأملات ذاتية...فيما علمتني إياه الحياة
| إنتاج أسر سليمة: إن لم تعثر على شغفك في الأهداف والاقتراحات السابقة، فلعلّ الحل يتمثل في هذا البند، ننسى أحيانًا أن الوطن يحتاج لأمهات وآباء جدد، مقدِّرين لقيمة الطفولة، وعظم مسؤولية التربية، بقدر ما يحتاج الطبيب والمرشد النفسي والفنّان المبدع، بناء أسرة سليمة غير مضطربة نفسيًا، وإضافة مجموع أفرادها إلى أبناء الوطن دون أن يكونوا غثاء سيل هو أصحّ وأنبل هدف يمكن العمل عليه أيام الشباب قبل وبعد إنشاء الأسرة، فنحاول الارتباط بالأسوياء لننجب الأسوياء ونفعل ما في وسعنا كيلا تنفرط أسرتنا وتفجعَ بنفسها مجتمعًا في أشدّ الحاجة لأسرة متماسكة، وإن حققنا ذلك فقد انتصرنا نصرًا عظيمًا بادئين بأنفسنا وأسرنا.
بناء الوطن ليست كلمة سهلة وإن لفظها الفم بيسر، إنه رحلة طويلة من المتاعب، لكنها متاعب تستحق الجهد، وبما أننا ما نزال منتمين لمرحلة الشباب، فهذا الخطاب موجَه إلينا لننقذَ أوطاننا عساها تتألق في الأيام القادمة، فيكون مستقبلها مزهرًا، وإن لم يكن مستقبلنا كذلك.