الأربعاء 05 يوليو
إنَّ لربِكُم في بقيةِ أيام دهرِكم نفحات فتعرضوا لها، لعل دعوة أن توافق رحمة؛ فيسعد بها صاحبها سعادةً لا يخسر بعدَها أبدًا. نفحاتٌ هي ذخيرتُك الرُّوحية التي تَنتظِر مِنك أنْ تَستنطِقها، كي تحكي لك كيف يصنع المرء في زَمنٍ قَصيرٍ؛ ضِفاف شَواطِئ مِن الأجرِ الأزليِّ الخَالد!
رُبّما تبدو لك أيامًا معدودات، لكنها أشبهُ بحروفِ {ألَمْ} و{حَمْ}؛ حيثُ تَشكَّل القُرآن كلّه مِن تلك الحُروف المُبهَمة، هي أيامٌ مَعدودات قَليلةٌ، وفي ظِلّها سَيتشكّل لكَ نَسيج العَام كلّه؛ فاخْتر على أيِّ هَيئةٍ سَيكون نَسيجك. ها هيَ تُحشَد لكَ تِلك الَّليالي المُباركة، وتَصنع لكَ زمَنًا أُسطُوريًا ثَريًا بِوَعدٍ عَجيب، أنْ تبلُغ فيها ما لا يَبلغه المُجاهِد في سَبيل الله!
قالَ ﷺ: ما مِن عملٍ أزْكى عِند الله ولا أعظم أجرًا من خيرٍ يَعمَله في عَشْر الأَضحى، قيل: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله؛ إلا رجلٌ خرج بِنفسه وماله فلَمْ يرجِعْ من ذلك بشيء. أيُّ كَرَمٍ هذا، أيّ حُبٍّ هذا، إذْ يتَوَدَّد لك الله؛ فَيمنحك مَقامًا كأنَّه موَاقع النُّجوم.
هذا زمنٌ سَيكون في آخرِ أيامه؛ تنَزُّلٌ إلهيٌّ في عَرفة، تَنزُّلٌ لأَجلك أنتَ، فتَهيَّأ لِذلك لذا كانَ الصّالحونَ يستَحوُن من الله أن يكون يومهم مثلَ أمسِهم. وأن تُرفع الأعمالُ في طيّ الغيوبِ بلا زيادة، تراهم يتفقَّدون أيامهم، فيضعونَ فيها، ولو مِثقالَ شَعيرة حَبٍ؛ ليرجَحَ ميزانُ اليوم عن ميزانِ الأَمس.
رُبّما تبدو الحبّة في نظرك خفيفةً، لكنَّ النّهار بها أصبحَ مختلِفاَ ولو قليلًا، فكيفَ كان حالٌهم إذن مع زمنٍ، هو من أحبٌّ الأزمان إلى الله. لقد كان الحياءُ في نفوسِهم يشتَدّ أن يلقوا الله بصحيفةٍ، تُشابه في ملامِحها صحيفةَ العام الذي مضى أو تُقاربه؛ إذ للقربِ خطواتٌ لا يجوز أنْ تَتكرّر. فتراهم في مواسم القربِ مشغولين بحفظِ الجوارح ف(إنّ من حفظ جوارحه، حفظ الله عليه قلبه). ولا همّ لهم إلا القرآن يقينًا بأنه "ما جعل عبدٌ القرآن هَمّه، إلا كفاه الله ما أهَمّه."
فتذكـَّر أيها المشتاق للدِّيـار المقدسة، لئن سارَ الرَّكب إلى جبلِ المَغفرة والرحمة، فقد جعل الله لنا نحن أيضًا سَـيرًا! قال ابن رجب الحنبلي: هذه أيـّامٌ جعلها الله مشتركة بين السّائرين والقاعدين، فمَن اغتنمها في بيتِه، كان أفضل ممن خرج للجهاد من بيته. لذا كان سعيدُ بن جبير رحمه الله تعالى. إذا دخلت العشر من ذي الحجة اجتهد اجتهادًا حتى ما يَقدِرُ عليه أحد. وكان يقول: لا تُطفئوا سُـّرَجكم فيها. أشعلوا السُّرج في لياليكم، عسى أنْ تشعلَ لكم أنوارَكم على الصّراط. واجتهدوا، فَلرُبّ قاعدٍ خيرٌ من ألفِ ساعٍ. والله من بعد؛ يعلم صـِدقَ النّيات وخَفَيّ الَّدمَعات.