عرض المحقق تقريرًا تلفزيونيًا يبكي فيه زوجها أثناء حديثه عن اعتقالها، ثم سألها: "فيه زلمة بيبكي!"، ما قالته حينها أن دموعه دليلٌ على إنسانيته، أما ما احتفظت به في داخلها أن دموعه دلالة شجاعة وحب.
أراد المحقق أن يوصل لها رسالة مفادها، أن زوجك ساخطٌ على ما آلت إليه أحوال أسرتك بسببك، لكنها التقطت من بين الدموع رسالة أخرى، وهي أن زوجها المُحب لا يحتمل غيابها. كان الهدف من عرض الفيديو عليها إضعافها في التحقيق لتعترف بالتهم الموجهة لها، لكن الحقيقة أنها استمدت منه قوّة فوق قوتها، فصمدت حتى النهاية.
استخدام الزوج والأبناء في الضغط على الكاتبة لمى خاطر، كان من أصعب ما تعرضت له أثناء التحقيق معها، ذلك التحقيق الذي حاسبها فيه الاحتلال "على كل حرف كتبته". اعتقلت خاطر في يوليو من العام الماضي، ونالت حريتها في يوليو الفائت، وفي هذا الحوار تتحدث لـ"بنفسج" عن الاعتقال وتفاصيل أخرى.
| دفع الثمن
علاقة الكاتبة لمى خاطر (43 عامًا) بالقلم بدأت عندما كانت في الثامنة عشر، آنذاك، كتبت مقالات أدبية وشيئًا من الشعر، عام 1995 شاركت في مسابقة جامعية لأفضل مقالة، وكان الفوز من نصيبها، ما شجعها على الاستمرار في الكتابة الأدبية، لم يمضِ الكثير من الوقت حتى قررت أن تسخّر قلمها لغايات كبيرة، فانطلقت تكتب في السياسة.
عندما قالت رأيها في الأحوال السياسية، كانت تدرك أن لما تفعله ثمن، فهي تؤمن بأن: "صاحب القلم يستخدم موهبته وفقًا لدوافعه، إما أن يكتب لأهداف شخصية، أو يكون حامل رسالة، الأول يسلك مسارات سهلة خالية من الصدامات وتفتح له بابًا للشهرة ولتحقيق الإنجازات الشخصية، أما الآخر، فيخط حروفه لأهداف أكبر، وهذا، يكون مستعدًا لتحمل التبعات".
عام 2009، شعرت ضيفتنا أنها بدأت بدفع الثمن، كان ذلك عندما استدعت السلطة الفلسطينية زوجها لأول مرة، بسبب كتاباتها. توالت الضغوطات، وأخذت تزيد تدريجيًا، سنوات من عدم الاستقرار عاشتها الأسرة كلها، اقتحام المنزل بين حين وآخر، ومنع من السفر، واستدعاء واعتقال الزوج والابن عند السلطة والاحتلال، وغير ذلك من طرق الضغط عليها لإجبارها على وقف نشاطها، سواء بالكتابة أو بالمشاركة في الحراك على الأرض.
وصلت الضغوطات إلى ما لم تكن خاطر تتوقعه في البداية، لكنها تلقتها بثبات، لأن "كل مطب يقوي الإنسان أكثر"، على حد قولها. توضح لمى: "المحطات الصعبة تدرب الانسان على المواجهة، لذا، عندما وصلت محطة الاعتقال كنت مطمئنة أن أبنائي مهيؤون لها، وقادرون على التعامل معها، حتى شعرت أنني أستند إلى جدار قوي".
تضيف: "عندما اعتقلت السلطة زوجي أول مرة، تم إخباره بصريح العبارة (نعتقلك لتضغط على زوجتك)، فشعرت أن غيري يدفع ضريبة مواقفي، لكن موقفه الراقي والمسؤول خفّف عني، إذ كان ردّه (استمري في الكتابة، لم أضغط عليكِ يومًا، ولن أجعلهم يشعرون أن لنا يدًا مؤلمة يمسكوننا منها". وتسهب في سرد حكايتها: "في 2016 اعتقلت السلطة ابني أسامة، وبعد صدور قرار الإفراج عنه، عرف معتقلوه أنه ابني، فأبقوه في السجن أسبوعًا تحت التعذيب، وهذا كان مؤلمًا جدًا بالنسبة لي". لكن اعتقاله عند الاحتلال كان أكثر إيلامًا، فقد وصلها الخبر قبل الإفراج عنها بأقل من شهر، وطالت مدة التحقيق معه، ولم يصدر حكمًا بحقه حتى اليوم.
في نشرة إخبارية إذاعية، خبرٌ عن اعتقال طلبة من جامعة بير زيت، سمعت خاطر نهاية الخبر، فلم تعرف أسماء المعتقلين، وانتابها القلق لأن ابنها طالب في هذه الجامعة. في المساء، كانت الأسيرات تستمعن لبرنامج إذاعي مخصص لإرسال الرسائل للأسرى، وكان الاستماع لهذه البرامج ممتعا بالنسبة لهن، ورد اتصال من صديقة خاطر، اتصلت لتواسيها في اعتقال ابنها، هكذا وصلها الخبر. كانت خاطر أرسلت رسالة مع إحدى الأسيرات المفرج عنهن، وأوصتها أن تعطيها لأسامة في يوم ميلاده، لكن الاحتلال سبق الأسيرة فاعتقله في ذات اليوم. ولأنها عاشت تجربة التحقيق المريرة، لم تحتمل مرور ابنها بها، كانت تتخيل ما يعانيه، خاصة أن تحقيقه طال لمدة 55 يومًا. ومع كل الألم، تؤكد: "اعتقال أسامة أثّر فيّ بشدة، لكنه ليس أول شاب يُعتقل، هذه مرحلة يجب أن نعيشها حتى النهاية".
| المحطة الأصعب
عن الاعتقال في سجون الاحتلال، نستمع للتجربة بتفاصيلها، ومن البداية، تقول خاطر: "كنت أتوقع الاعتقال في تلك الفترة، فكان نومي خفيفًا، استيقظت على صوت حركة قوات الاحتلال حول البيت، ارتديت ملابسي وأيقظت زوجي، دخل الجنود البيت وأخذوا حاسوبي وهاتفي النقال وأصرت مجنّدة على تفتيشي".
وتضيف: "ودّعت زوجي وأبنائي، أصعب ما في هذه اللحظة ترك ابني الأصغر يحيى الذي ظنني أخرج من البيت بشكل طبيعي، فأراد أن يرافقني، احتضتنه بشدة لشعوري أنني سأغيب عنه فترة طويلة، أردت أن يكون آخر من أحتضنه لأنه أكثر شخص يحاج لي، ولخشيتي أن ينساني لو طال البعد"، خرجت معهم نحو المحطة الأولى في هذه التجربة، التحقيق. غرفة ذات جدران اسمنتية كئيبة، إضاءة مستفزة، ومحققون يتفننون في إرهاق النفس والجسد. هنا، غرفت التحقيق التي كانت شاهدة على أصعب ما مرّت به خاطر.
التحقيق في بدايته كان بتهمة "امتلاك منصب في تنظيم محظور وتقديم خدمات له"، ولمّا لم تعترف الأسيرة بهذه التهمة، هددها المحققون بأنهم سيملؤون ملفها بكتاباتها منذ عام 1996، وسيشكلون لجنة تقرأ كل حرف، وهذا ما حدث، فقد أخرجوا لها الدفاتر القديمة، بما فيها من كتابات فقدتها ولم تعد تجدها على الإنترنت.
ماذا قصدتِ بهذه الكلمة؟ وماذا تعنين بتلك العبارة؟ وما الذي أردتِ أن توصليه من وراء سطور ذلك المقال؟ هكذا قضت خاطر أيامًا وليالٍ، يسألها المحققون عن معاني كتاباتها، لدرجة جعلتها تشعر أنها تدفع ثمن كلمة كتبتها، بما فيها من كتابات بسيطة لم تتخيل يومًا أن تُسأَل عنها في ظروف قاسية كهذه، على حد قولها.
"لو نفذتِ عملية على الورق لن أحاسبك، لكن أنت لا تختلفي عمن ينفذ عملًا عسكريًا ضد (إسرائيل)". ليست الآراء فقط، بل حتى التحليلات السياسية التي تكون بمثابة قراءة للواقع، حاسبوها عليها، التحقيق وصل للأفكار، فكانت موضع نقاش يمتد لساعات، لاستنزاف طاقتها، والأفكار المُنتقاة هي من المسلمات، مثل "من أحق بالمسجد الأقصى المسلمون أم اليهود؟".
هذا التدقيق في الكلمات، لم يكن مخالفًا لحرية الرأي فقط، وإنما لما قاله أحد المحققين لضيفتنا في بداية التحقيق معها: "لو نفذتِ عملية على الورق لن أحاسبك، لكن أنت لا تختلفي عمن ينفذ عملًا عسكريًا ضد (إسرائيل)". ليست الآراء فقط، بل حتى التحليلات السياسية التي تكون بمثابة قراءة للواقع، حاسبوها عليها، التحقيق وصل للأفكار، فكانت موضع نقاش يمتد لساعات، لاستنزاف طاقتها، والأفكار المُنتقاة هي من المسلمات، مثل "من أحق بالمسجد الأقصى المسلمون أم اليهود؟".
12 محققًا تناوبوا على إرهاق خاطر بهذه الطريقة على مدار 34 يومًا، تكلموا معها "بمنطق دولة في مواجهة شخص"، دون أن يدروا أن قسوتهم المطلقة تمد المرأة المكبلة أمامهم بالقوة، إذ تقول: "عندما أجد الشاباك مهتمًا بكلماتي ومواقفي، أكتسب مزيدًا من الثقة بالنفس، أشعر أن كتاباتي لم تذهب سدى، إزعاج العدو منحني رضًا عن النفس وتصالحًا مع الضمير".
شبح، منع من النوم، تهديد بالأحبة، أساليبٌ كثيرة يستخدمها المحققون عادةً للضغط على الأسرى، تستذكر ضيفتنا بعض ما عايشته في هذه الفترة: "زنزانة صغيرة جدًا، جدرانها من الباطون الخشن، أرضها قذرة جدًا، وكذلك دورة المياه الموجودة داخل هذه المساحة الضيقة، فيها فرشة رقيقة، الجو شديد البرودة رغم أنني اعتقلت في يوليو، فالمكيف مسلط فوق رأسي، وإن فكّرت أن أتجاوزه، يكون المرحاض في الجهة الأخرى".
وتضيف: "التحقيق في البداية كان عشر ساعات يوميًا، ومع رفض الاعتراف بالتهم، زادت لنحو 20 ساعة مع نقلي لزنزانة أسوأ حالًا". وتتابع: "التحقيق المتواصل صعب للغاية، 20 ساعة مشبوحة على كرسي التحقيق، لا يتم فكّ وثاقي إلا إن طلبت قضاء الحاجة، حتى أن هذا الطلب يكون وسيلة للضغط، فمثلًا كان المحققون يهددوني بعدم السماح لي بذلك، وفي حال الموافقة يتم تحديد مهلة خمس دقائق، وإلا ستفتح المجندة باب دورة المياه".
النوم من الحاجات الإنسانية التي تُستخدم بقوة للضغط على الأسير، فلا يُسمح به إلا لوقت محدود بين ساعات التحقيق التي تكاد تغطي الأربعة وعشرين ساعة. وتشير إلى أن الطعام رديء للغاية، كانت تضطر لتناوله لتمنح جسدها الحد الأدنى من القدرة على التحمل، وبينما هي تأكل، يواصل المحقق طرح أسئلته. أما المياه، فتأخذ لونها من الصدأ الذي يملؤها، ولا خيار سوى الشرب منها، الصنبور مصمم بحيث تنزل المياه لخمس ثواني فقط مع كل ضغطة، ما يجعل استخدامه عملية شاقة، فمثلًا غسل قطعة صغيرة من الملابس يستغرق نصف ساعة.
مواقيت الصلاة كانت تقدّرها لمى وفقا لوجبات الطعام، ولا مفرّ من أدائها على كرسي التحقيق، وإن طلبت فك يديها، يرد المحقق: "صلّي بعينيك"، لم يستجِب لطلبها إلا عندما قالت إنها ستتحدث عن منع شعائر العبادة بعد خروجها، وطبعًا كان يحسب وقت الوضوء والصلاة على أنه راحة لها.
الإضاءة في غرفة التحقيق مستفزة ومرهقة للعين، وفي حال إطفائها يتحول المكان لـ"كحل"، ذات مرة تم إطفاؤها في زنزانة خاطر لساعات طويلة، ولما أرادت أن تتوجه لدورة المياه، أخذت تطرق الباب ليعيدوا لها الإضاءة، فلم يستجيبوا إلا بعد ساعة تقريبًا، وليتهم ما استجابوا، صارت الإنارة تعود وتذهب بسرعة، فأرهقتها بدرجة اضطرتها لربط قطعة من ملابسها على عينيها، وبعد عدة ساعات نقلوها لزنزانة أخرى. وتوضح: "هذا الحال سبب لي آلاما شديدة في الرقبة والظهر مع دوار، وطبيب السجن يكتفي بإعطائي المسكن ولا يوصي بمنحي بعض الراحة".
| "يحيى" وسيلة ضغط
اللعب على وتر الأمومة حكايةٌ أخرى، كان المحققون يضغطون على خاطر بتحريك عاطفتها تجاه أبنائها تارة، وبتهديدها بمعاقبتهم على كتاباتها تارة أخرى، فكانت تتمالك نفسها لألا تُظهر لعدوّها أثر الضغط على الجانب الإنساني. يهددها المحققون: "سيجلس أبناؤك على هذا الكرسي، سندمر حياتك بعد خروجك من السجن، سيُحرم أبنائك من السفر، حتى لو احتاجوا للعلاج في الخارج، ستكتشفين أنت وأسرتك أن كل مشكلة في حياتك خلفها جهاز الشاباك، ستدفعين أنت وأسرتك الثمن غاليًا حتى لا يقلدك أحد في عدم اعترافك". ثم يقدمون لها الإغراءات: "اعترفي بالتهم، وسنغلق ملفك ونفرج عنك".
"آخر العنقود" كان الورقة الأصعب، يعرض لها المحقق صورته وهو يجلس في بيته على الأرض بمفرده وممسكًا دميته، ثم يسألها: "ماذا تفيده الدمية بينما أنتِ تركتيه؟"، فكان جوابها: "إن كنتَ إنسانيًا لهذا الحد فلماذا تأخذني منه؟". تقول: "لو قبلت المرأة دفع ثمن مواقفها، يبقى أبناؤها نقطة حساسة، لذا هددوني بهم". لم يكتفِ المحققون بليّ يدها من طرف الأبناء، فقد أضافوا زوجها، لإدراكهم حجم الودّ الذي تأسس عليه هذا البيت، ما لم يدركوه أنهم قدموا لها هدية عظيمة، حتى إن كانت مغلفة بالألم، ذلك عندما عرض عليها أحدهم مقطع فيديو يبكي فيه زوجها بعد اعتقالها.
تقول: "أراد المحقق أن أنهزم، وأظن أن زوجي يبكي سخطًا على حال الأسرة بسببي، لكنني فهمت أن بكاءه بسبب حبي وافتقادي والحزن علي، أعطاني هذا شعورًا بالامتنان، وبالتقدير العالي لزوجي ولشجاعته ولعدم تحرجه من البكاء أمام الإعلام". بينما هي في التحقيق، كانت أيام عيد الأضحى تنقضي، ظنّت أن التحقيق سيتوقف في اليوم الأول من العيد على الأقل، لكنها أمام عدو لا يرحم، يستخدم كل فرصة للضغط على المعتقل.
زارها مندوبو الصليب الأحمر قبيل العيد، حمّلتهم سلامًا لأسرتها، وتمنت أن ترسل معهم لزوجها وصية بأن يسعد أبناءهما في العيد، وأن يشتري لهم الملابس الجديدة كما لو كانت موجودة، لكن الكلمات علقت على طرف لسانها، لم تتمكن من قولها لمعرفتها بصعوبة وضع أسرة تغيب الأم عنها في العيد.
في صباح العيد، وبينما عقلها منشغل التفكير في أبنائها، كان المحققون يحولون الأمر لسخرية، فيقول أحدهم: "آآآه صحيح اليوم عندكم عيد"، ثم يرشّ الملح على الجرح: "لو أردتِ سماع صوتهم في العيد، فأنتِ تعرفين ما عليكِ فعله"، قاصدًا الاعتراف. ما سبق ليس إلا جزءًا يسيرًا من الشكل الذي تأخذه فترة التحقيق، وإن اختلفت بعض تفاصيلها من معتقل لآخر، فهي قاسية لدرجة أن يرى المعتقل الكوابيس وهو مستيقظ.
بعد كل هذه الضغوط، وعندما يشعر المحقق أن التعب بلغ ذروته، يجلس أمامها منتظرًا الاعتراف. أحد المحققين قال لها: "إننا ننتقم بالقانون"، ذلك لأنهم يتحايلون على القانون بمهارة، ومن أمثلة ذلك، السماح بعرض المعتقل على طبيب السجن تطبيقًا للقانون، لكن الحقيقة أن هذا العرض لا يقدم ولا يؤخر، إذ لا يحصل المعتقل على علاج حقيقي، وهذا هو التحايل.
وتساءل محقق آخر عن "سبب العناد"، فقالت له: "أتحمل الخسائر المادية لا المعنوية". وتؤكد: "الاعتراف سيسبب لي تأنيب ضمير، وسيشعرني بانهزامي أمام نفسي وبالرسوب في اختبار المبادئ. أما اليوم، فأنا أشعر أني ربحت معركة المبادئ". من عجائب التحقيق، أن خاطر التي تنتقد السلطة ولم تتخيل أنها ستدافع عن رئيسها يومًا، فعلت، أو بالأحرى اضطرت أن تفعل، دافعت عنه أمام المحقق حتى لا يرى خصومتها مع أي فلسطيني.
ويبدو أن المحقق كان فعلًا يحاول دفعها للحديث بسوء عن بني جلدتها، فقد سألها ذات مرة: "لو أُتيح لك اختيار سجنك، هل ستفضلين سجون السلطة، أم سجون المخابرات السورية أم الأردنية أن الإسرائيلية؟"، اختارت سجون السلطة، كانت الإجابة مخالفة لما ينتظر سماعه، فردّ عليها: "والله إنك كذابة"، فقالت: "السلطة خصم سياسي لكن أفرادها أبناء بلدي وبينا أهداف مشتركة، أما أنت عدو".
إن ما ينغرس فيك في لحظات اليقين الكبرى لا تجتثه يد البطش، ولا تجففه شمس الفيافي.
وتذكر أنها لكي تساعد نفسها على تجاوز الأهوال التي تمرّ بها، كانت تسأل نفسها وهي تحت التحقيق: "أين أنا من مبادئي؟"، فتكون الإجابة: "التجربة لم تزعزع قناعاتي وإصراري على مواصلة الرسالة"، بالإضافة إلى أنها كانت تستمد القوة من قوله تعالى في سورة التوبة: "ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ".
أخيرًا، انتهى كابوس التحقيق، ودخلت خاطر سجن "الشارون"، وفيه سرعان ما كتبت مقالًا، كان فيه عبارة تمثل قاعدة استندت إليها في التحقيق، إنها: "إن ما ينغرس فيك في لحظات اليقين الكبرى لا تجتثه يد البطش، ولا تجففه شمس الفيافي"، ويبدو أن هذه الكلمات كانت تعبر عن شريكاتها في الأسر، فعلقنها على جدار الزنزانة.
| لحظة فرح نادرة
على قسوته، يكون السجن سببًا للفرح، ذلك لأنه يأتي بعد انتهاء مرحلة التحقيق. تقول خاطر: "كنت أتوق للحظة التي أتخلص فيها من التحقيق، فهو عالم كامل مظلم موحش، يجعل الإنسان يعيش شعورًا غريبًا وكأنه مخلدٌ فيه، وبالتالي يتمنى السجن". وتضيف: "عندما خرجت من التحقيق للسجن، مررت فرح نادرة في حياتي". في "غرفة 8" بسجن "الشارون، كانت خاطر زميلة لأربعة أسيرات، إحداهن صديقتها، استقبلنها بلطف، وحاولن أن يخففن عنها.
سهرت الأسيرات الخمس حتى الصباح، فخاطر التي تنام مبكرًا في العادة، ليست قادرة على النوم لأن التحقيق غيّر نظامها، ولرغبتها في الحديث مع الناس. كانت "البرشات" أقل من عدد الأسيرات، فأعطتها إحداهن برشها، والبرش هو سرير السجن. وفي اليوم التالي، جهّزت لها زميلاتها ملابس وبعض الاحتياجات الأساسية. تقول: "استصعبت الأيام الأولى، خاصة أن أول يوم لي في السجن تزامن مع (الزيارة) لبعض الأسيرات، وكنت في أشد الشوق لأحبتي".
وتضيف: "مع الوقت، تأقلمت، وانخرطت في برنامج الأسيرات، وشاركت في تقديم بعض فقراته". بعد شهر ونصف، تم جمع كل الأسيرات في سجن "الدامون"، وفيه وجدت أجواءً إيجابية ومساحة أكبر للبرامج الدعوية والثقافية والتربوية، وتابعت ملف الثانوية العامة وشاركت في تدريس عدد من الأسيرات المتقدمات للاختبارات. وتوضح: "شغل الوقت جيدٌ للأسيرات، يمنحهن شهورًا بأنهن يستفدن، ويفدن ولا يتحولن لرقم داخل السجن"، مبينة: "لو لم يتعايش الإنسان سيظل يعد الأيام وهذا يجعل عبأه كبيرًا".
| يومٌ في السجن
"يبدأ اليوم من الفجر، تنادي إحدى الأسيرات على كل الغرف للاستيقاظ للصلاة، وتصلي الأسيرات جماعة، وأحيانا تبدأ الأسيرة يومها من قيام الليل، لا أفضل النوم بعد الفجر، أحب لحظات الصفاء بعده، حافظت على هذه العادة خلال الاعتقال، كنت أشعل نورًا صغيرًا لأقرأ القرآن أو أكتب".
وتتابع: "في السادسة صباحًا، نرتدي ملابس الصلاة استعداد للعدد، وفي السابعة تكون ساعة الرياضة، لكن ليس بوسع الأسيرة سوى المشي لأن الساحة مليئة بالكاميرات".
وعن تفاصيل يومها هي وشريكاتها في الأسر، تقول: "يبدأ اليوم من الفجر، تنادي إحدى الأسيرات على كل الغرف للاستيقاظ للصلاة، وتصلي الأسيرات جماعة، وأحيانا تبدأ الأسيرة يومها من قيام الليل". وتضيف: "لا أفضل النوم بعد الفجر، أحب لحظات الصفاء بعده، حافظت على هذه العادة خلال الاعتقال، كنت أشعل نورًا صغيرًا لأقرأ القرآن أو أكتب".
وتتابع: "في السادسة صباحًا، نرتدي ملابس الصلاة استعداد للعدد، وفي السابعة تكون ساعة الرياضة، لكن ليس بوسع الأسيرة سوى المشي لأن الساحة مليئة بالكاميرات". وتواصل: "نعود لغرفنا ونجهّز الإفطار، السجن يوفّر إفطارًا يتكون من علبة لبن صغيرة وخبز وبعض الخضروات، نشتري نحن أصنافًا أخرى، ويكون الزيت والزعتر حاضران دوما".
بالمناسبة، للطعام استخدام آخر غير الذي نعرفه، إنه من وسائل الأسيرات لتغيير ملامح أيامهن المتشابهة، يشترين الفول والحمص والبيض وغيرها من الأشياء، يومًا تتناولن الزعتر مع الزيت بالشكل التقليدي، وفي يوم آخر تصنعن به "المناقيش"، وأحيانا تستبدلن الشاي المرافق للإفطار بالبابونج. عند التاسعة يحين موعد "الفورة"، تلتقي الأسيرات في الساحة، وأحيانا يجبرهن الطقس (الحار أو البارد) على الاكتفاء بالاجتماع في الغرف.
توضح خاطر: "يحين وقت العدد الثاني في الساعة العاشرة، وبعده نجلس في غرفنا لنقرأ، وكنا نفضل فعل ذلك في زنزانتي". وتبين: "الفورة التالية تكون في الثانية النصف بعد الظهر، وهذه نخصصها لدورات في مجالات مختلفة، مثل السيرة النبوية وأحكام تلاوة وتجويد القرآن والخط، أو لتدريس الأسيرات المتقدمات لامتحانات الثانوية العامة، وكل أسيرة تلتحق بالدورة التي تريدها، وطبعا إلقاء المحاضرات في هذه الدورات ليس سهلًا، ويحتاج منا توفير البدائل، كاستبدال السبورة بأوراق نلصقها على النوافذ ونكتب عليها".
بعد انتهاء الفورة، تبدأ الأسيرات بإعداد وجبة الغداء، كل غرفة تجهز ما اتفقت عليه بناتها في بداية الأسبوع، ففيه، يحددن ما سيطبخنه طوال الأسبوع، ويبحثن عن طرق تجعل طعامهن قريبًا لما كنّ يتناولنه خارج السجن. من الرابعة للسادسة، تكون الفورة الثالثة، يتخللها صلاة العصر جماعة، ثم موعظة قصيرة، وفي هذه الفورة أيضًا تنظم الأسيرات مسابقات لحفظ القرآن، ويتم تقديم جوائز للفائزات، والجوائز بسيطة جدًا، كقطعة حلوى أو دفتر، لكن قيمتها كبيرة للغاية، تشتريها بعض الأسيرات على نفقتهن وتتبرعن بها لصالح المسابقة.
أينما حلّت المرأة، تضفي روحًا مختلفة، حتى لو كانت بين جدران وخلف قضبان، إذ تقول خاطر: "أي شخص في السجن سيبتكر، لكن عند الأسيرات اللمسات الفنية أكبر، ومن أمثلة ذلك، اتفاقهن على توحيد أغطية فراشهن، يحددن لونًا ويطلبنه من ذويهن، وهذا الاهتمام بالترتيب يسري على كل ما هو داخل الزنزانة، ما يعطيها مظهرًا جميلًا رغم وجود المطبخ ودورة المياه فيها".
حجم الإبداع مثير للغرابة، تصنع الأسيرات أشياء بالغة الإتقان من العدم، حتى أن السجانين يندهشون عندما يرون زينة الغرف وأناقة الموائد.
وتضيف: "تتناقل الأسيرات مهارات خاصة تجعلهن يستفدن من أي شيء تطاله أيديهن، يقطعن أوراق الشوكولاتة بأشكال جميلة ويحتفظن به لاستخدامه في الاحتفالات بمختلف المناسبات، كأيام الميلاد، أو زواج قريب إحداهن، ويأخذن الخرز من على ملابسهن ليصنعن منه مشغولات يدوية، وإذا احتفلن بخروج إحداهن يزينها بأقلام الحبر والألوان فتبدو وكأنها خرجت من صالون تجميل، ويزين الغرف في الأيام المميزة، فمثلًا في رمضان يصنعن أهله من الورق".
وتتابع: "حجم الإبداع مثير للغرابة، تصنع الأسيرات أشياء بالغة الإتقان من العدم، حتى أن السجانين يندهشون عندما يرون زينة الغرف وأناقة الموائد". وتوضح: "نتفق على تنظيم أيام ترفيهية، تشمل مسابقات وأناشيد وألعاب، نريد أن نضفي جوًا من المرح على واقعنا الصعب، وأحيانا ننفذ فعالية تنظيف جماعي للساحة، وفي بعض الأيام تتولى أسيرتين أو ثلاث إعداد غداء جماعي للأسيرات، ونصنع الحلوى أيضا بمكونات لا تخطر على البال".
| "ماضٍ" والأصوات الندية
تلك فعاليات تشترك فيها الأسيرات جميعًا في الساعات التي تلتقين فيها، ولكل زنزانة نظام خاص تتبعنه باقي اليوم. في "غرفة 2"، حيث كانت تقبع خاطر، برنامجٌ مليء دومًا، صلاةٌ وتلاوة قرآن وقراءة وغير ذلك، وأكثر ما ميّز هذه الزنزانة الصوت الندي الذي تتمتع به الأسيرات فيها، لذا كان الإنشاد فقرة شبه يومية تستمر لساعة أو أكثر. تتذكر خاطر تلك الفقرة الفنية: "كنا نعصر أذهاننا لنجبر ذاكرتنا على استرجاع كلمات الأناشيد، فليس بين أيدينا (يوتيوب)، أنا وإسراء غنيمات نحب الأناشيد القديمة، لا نهدأ حتى نتذكر كلماتها وتكتبها على الورق".
كان مما تذكرته خاطر أنشودة "ماضٍ" التي لم تسمعها منذ نحو 20 سنة، أحبتها بنات غرفتها، وصرن ينشدنها في كل ليلة تقريبا. وتبين: "نفعل كل ذلك بانسجام تام بغض النظر عن أي اختلافات في الآراء، فشعار الأسيرات دوما هو: (اللي برا برا واللي جوا جوا)، فجو السجن لا يحتمل خلافات".
هذه الأجواء تخفف عن الأسيرات، لكن يجب ألا ننسى أنهن مسلوبات الحرية، عندما تنتهي الفورة الأخيرة، تعود كلٌ منهن إلى زنزانتها، لا تخرج منها حتى اليوم التالي، فكل ما يلزمه خروج من بين تلك الجدران الأربعة يجب أن تفعله في فترات الفورة التي يبلغ وقتها مجتمعة أربع ساعات ونصف فقط، فمثلًا، إن أرادت أن تستحم فعليها أن تفعل ذلك في وقت الفورة لأن أماكن الاستحمام خارج الغرف.
وتوضح خاطر: "للنفس إقبال وإدبار، لا يستطيع أحد أن يكون قويًا ومبتسمًا ومتفائلًا طوال الوقت، مهما كان إيمانه عاليًا ويقينه كبيرًا، فلا بد من لحظات ضعف وبكاء". وتبين: "أحيانا تحتاج الأسيرة للبكاء، ربما ترغب أن تعيش حزنها بمفردها بلا مواساة، لكن لا خصوصية في السجن"، مشيرة إلى أن: "الأسيرة قد تمنع دموعها حتى لا تؤثر على زميلاتها، خاصة إن كانت قدوة لهن، فهي مضطرة للتماسك لأجلهن".
اليوم الأخير في السجن، تتزين الأسيرة التي حان موعد الإفراج عنها لأجل الحفل الذي تنظمه اللجنة الاجتماعية. هذا الحفل يكون في إحدى الغرف الكبيرة بالسجن، وفيه تتحدث ممثلة الأسيرات وصديقات المحررة أو بنات غرفتها، مع ترديد الأناشيد وعرض مسرحية فكاهية، وتوزيع حلوى من إعداد الأسيرات، وتجري إحداهن مقابلة قصيرة مع المحررة، وفي الختام، يتم تسليمها درعًا باسم الأسيرات.
وتقول ضيفتنا عن الحفل الخاص بها: "إضافة لهذه الفقرات، كانت هناك كلمة مؤثرة من صديقتي إسراء غنيمات التي تحررت قبلي، تركتها في عهدة ممثلة الأسيرات مع هدية منها ومن صديقاتي المقربات في السجن عليها العبارة التي اتخذها شعارًا (قف دون رأيك في الحياة مجاهدًا.. إن الحياة عقيدة وجهاد). وفي نهاية الحفل، ألقيت أنا كلمة شكرت فيها الأسيرات مع عدة وصايا لهن بالحفاظ على التآلف بينهن والتسلح بالأمل واليقين، لأن كل مناسبة إفراج لأسيرة تعد مناسبة لتجديد اليقين بأن أيام السجن ستنقضي مهما كانت طويلة".
| آثارٌ لا تزول
السجن تجربة لا تنتهي بالتحرر، فهو يطبع بصماته في حياة من دخله، بصمات على شكل دروس وقيم يتعلمها، ومواقف تُحفر في ذاكرته. تؤكد خاطر: "بالنسبة لي، لا خسائر نتجت عن هذه التجربة، كانت مفيدة لي ولأسرتي، منحني السجن خبرة في الحياة والناس، مكان ضيق لكن فيه مجتمع متنوع، والتحقيق علّمني الصبر والتحمل والجلد، حتى أنني ربما ما تحملت قسوة السجن لولا بشاعة التحقيق، تخلصت من العصبية، وقررت أن أنظر دومًا للنصف الممتلئ من الكأس، أصبحت أعمق تفكيرًا، وأكثر حكمة في اتخاذ القرار".
مما أثر بها كثيرًا، بكاء رجالها في الزيارات، والدها وزوجها وابنها أسامة، بكوا عندما زاروها وحدّثوها من خلف الزجاج العازل، لكن دموع أسامة آلمت روحها بشدة، حتى أنها وجدت صعوبة في الحديث معها، لأنها أدركت عدم قدرته على تحمل رؤية أمه في السجن. وأكثر ما تأثرت به من أحوال الأسيرات، لحظة معرفة الأسيرة وفاء مهداوي باستشهاد ابنها أشرف نعالوة، تقول: "أعتقد أن أي من الأسيرات اللواتي شهدن الحدث لن ينسوه، قضت مهداوي شهرًا في التحقيق، جاءتنا بعده في حالة انهيار شديد، آنذاك كان أشرف مُطاردًا، وزوجها وابنها الآخر معتقلين، وبيتها مهدد بالهدم". وتضيف: "عندما وصلنا خبر استشهاده كانت الغرف مغلقة علينا، طلبت ممثلة الأسيرات فرصة لتبلغها، فكان رد السجان (هي متوقعة) بنبرة كلها استهتار وشماتة".
سمح الاحتلال لثلاثة من الأسيرات بالتوجه لغرفتها، كان قلب الأم يخبرها بحدوث أمر جلل، فأخذت تستفسر إن كان حصل لابنها شيء، كان سؤالها كان "اعتقلوا أشرف؟". استبعاد الأم فكرة رحيله، جعل إخبارها بالحقيقة أصعب، إلى أن أجابتها إحداهن: "أشرف لم يعتقل، استشهد"، من هول الصدمة خرجت الأم الثكلى للساحة تصرخ، حتى فقدت وعيها، ولما استعادته لم تنقطع عن البكاء، ولم يكن بيد الأسيرات سوى تركها تبكي، حتى نفذ عاصم البرغوثي عملية ضد جنود الاحتلال، فخفف عنها الخبر قليلًا.
من المفارقات، أن احتجاز جثمان أشرف كان سبيل الأسيرات للتخفيف عن والدته، عندما بكت لأنها لن تودعه، ردت إحداهن بعفوية: "الجثمان محتجز، ستودعيه وتدفنيه بعد خروجك".
| بين اعتقال الأب والأم
فوائد التجربة تعدّت خاطر لتطال أسرتها، فعندما خرجت من السجن وجدت أبناءها يتحلون بقدرٍ أكبر من المسؤولية وفهم الحياة. في غيابها، انقطعت ابنتها الكبرى بيسان عن جامعتها للاعتناء بأخيها الأصغر، هذا الانقطاع أخرها عن الدراسة، لكنه كان "مكسبًا" في قضايا حياتية أخرى. وعلى ذكر "يحيى"، فقد تركته خاطر وهو لا يجيد الكلام، وبعد خروجها وجدت طفلًا يتحدث بطلاقة، ويتمتع بمهارات كثيرة، كل يوم تتعرف عليه بشكل آخر، ما أشعرها أنه وُلد من جديد، وأكثر ما يسعدها أنه اندمج معها بسرعة.
وفي سياق الحديث عن الأسرة، فضيفتنا وزوجها خاضا تجربة الاعتقال، وبالتالي، تجربة الاهتمام بالبيت في ظل غياب الطرف الآخر. تقول: "رغم دور الأب المركزي، إلا أن اعتقاله أخف على الأبناء من اعتقال الأم، عندما اعتقل زوجي كنت على رأس أبنائي طوال الوقت، خاصة أنني لست موظفة، أما عند اعتقالي، اختلف الأمر واضطرت ابنتي للتوقف عن الدراسة لتدبير شؤون البيت، ذلك لأن زوجي لا يتمكن من متابعة الأسرة على مدار الساعة بسبب عمله".
وتوضح خاطر: "بعيدًا عن رعاية الأبناء، أنا وزوجي متوافقان للغاية، نحن صديقان قريبان جدًا، لذا افتراقنا صعب، وعند اعتقالي شعر زوجي بفراغ شديد، لكنه لم يلمني مطلقًا". وتؤكد: "موقفه الرائع ليس جديدًا عليه، أنا أقول دومًا، إن المرأة القوية المبدعة لا بد أن تكون مطمئنة من طرف أقرب رجل في محيطها، لأنه إن تسبب بمشكلة فلن تتمكن من تقديم شيء".
| الحرية حاجتهن الأولى
عن الأسيرات وأحوالهن تقول: "السجن ليس للمرأة، لكن لو فُرض عليها فلا بد أن تتحمله، هو واقع صعب للغاية، فالأسيرة تقضي نحو 20 ساعة من يومها بين أربعة جدران، لذا، هي بحاجة لساعات (فورة) أطول، وأماكن الاستحمام تمثل عبئًا كبيرًا، بالإضافة للمماطلة في العلاج، ناهيك عن كاميرات المراقبة في الساحات التي تجبرهن على ارتداء ملابس الصلاة وتمنعهن من ممارسة الرياضة، أما الزيارات، فهي مشكلة لا بد لها من حل، إذ تكون لأقارب الدرجة الأولى فقط، وهؤلاء قد يكون بعضهم ممنوعًا أمنيًا، وبالتالي، لا تحصل الأسيرة على زيارات لعدة أشهر، وهذه المشاكل تكون أشد وطأة على صاحبات الأحكام العالية".
وتضيف: "ملف الأسيرات الجريحات، وعلى رأسهن إسراء الجعابيص، يجب أن يكون أولوية، فمثلًا بإمكان السلطة أن تتحرك للتوصل على تسوية للإفراج عنهن". باختصار، الحرية هي الحاجة الأساسية للأسيرات، هذا ما تؤكده خاطر وهي تستذكر حال الأسيرات قبيل الإفراج عنها بأيام، حين "لمع بريقٌ رهيبٌ في عيونهن" عندما ألقى الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أبو عبيدة خطابًا تحدث فيه عن الأسرى.
وتبيّن: "أهم قيمة تنتشر بين الأسيرات، بالإضافة لحاجتهن للحرية، أن التوافق العالي بينهن يؤكد وجود فرص لتحقيقه في خارج السجون، بشرط أن يكون مبنيًا على قناعة وليس مجرد اتفاق شكلي". وتوضح: "التوافق العالي بينهن مكنهن من اتخاذ عدة خطوات نضالية لتحسين أوضاعهن، منها إرجاع وجبات الطعام، وتنظيم اعتصامات في ساحة السجن، وهي خطوات نضالية ساهمت في حمل إدارة السجن على الاستجابة لعدد من مطالبهن"، مؤكدة: "حتى السجن، يمكن أن يكون ساحة نضال إذا تكاتفت الجهود وتعاظمت إرادة التحدي لدى الأسرى بهدف انتزاع حقوقهم".
وتلفت خاطر إلى أهمية التضامن مع الأسيرات، لما له من تأثير إيجابي كبير عليهن، خاصة صاحبات الأحكام العالية اللواتي يشعرن أنهن أرقام منسية، ومنفيات في السجن، مبينة: "من المفارقات، أن تصل رسائل تضامنية من الخارج، يرسلها بعض المتضامنين لأسيرة يتابعون قضيتها، أو يتواصلوا مع أهلها ليطمئنوا عليها، بينما لا تصل مثل هذه الرسائل من عرب ولا فلسطينيين، رغم أن الأمر ليس صعبًا، على الأقل يمكن إظهار التضامن من خلال اتصالات عبر البرامج الإذاعية الموجهة للأسرى".
أخيرًا، كيف ستوثق الكاتبة تجربتها مع السجن؟ تجيب خاطر: "كتبت عن بعض جوانب الاعتقال أثناء وجودي في السجن، لكنني لم أدوّن كل ما مررت به وشهدته لأن إخراج الكتابات من السجن ليس عملية سهلة، فأي أسير يرغب بإخراج شيء مكتوب معه، يجب أن يسلمه لإدارة السجن قبل يوم من موعد الإفراج عنه، لتفحصه لجنة خاصة، ومن ثم تسمح بإخراج الكتابات أو تصادرها، سأنشر ما كتبته في مجموعة من المقالات".