لطالما استوقفتني هذه الآيات القرآنية العميقة في سورة البقرة، ولطالما راودتني تساؤلات عدة بخصوص هذه القصة التي سيقت في سياق وحبكة حكيمة، تدهشني عند كل مرة فالمعاني المستقاة لا تنضب، إنه الفتح الرباني الذي يفتحه على العباد المريدين للفهم (نسأل الله أن يُكرمنا بما أكرمهم)، وهذه هي الغاية من تدبر القرآن الكريم، بل هذه من أهم غايات تنزيل القرآن الكريم إلى الأرض لتتلقاه صدور المؤمنين.
أذكر في مقابلة للشيخ الدكتور عمرو عبد الكافي، حين سأله المحاور ( الذي كان ابنه)، ما هي أقصى سعادة تعيشها في الدنيا، فأجابه: حين يفتح الله عليّ بفهم جديد لآية معينة، وأتلقى معنًى آخرَ غير الذي كنت أتلقاه في قراءاتي السابق. وأظن أن أحد الحكم الربانية من أن القرآن شديد التفلت ويستوجب التكرار والحرص، ليتكرر نظر القلب فيه؛ فيُستنارُ بنور الفهم وعِظم المعنى.
ولو تناولنا قصة بني إسرائيل وطالوت، فإن طالوت كان فردًا من بني إسرائيل، ولقد كانوا آنذاك في ذلة وهزيمة مبعدين من أرضهم، في كرّ وفرّ مع دولة العماليق التي استوطنت جنوب فلسطين. وطلبوا أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت رايته، فرزقهم الله بطالوت، وكما نعرف عن بني إسرائيل أنهم عُرفوا بالتلكؤ والمماطلة والجدال، فهذا الملك لم يرق لهم لأنه ليس من سلالة الملوك.
"قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وهذه الآية تبين مؤهلات طالوت التي جعلته محل اصطفاء من الله عز وجل.
"فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ"، لطالما تساءلت: ما العلاقة بين شرب رشفات من الماء ومعركة كبرى قادمة؟ ما هو سر هذا الوصل العجيب؟ وهل هناك روابط سببية بين الأمرين؟ هل سيكون هناك حديث عن الفرق بين مباح وواجب؟ أم سيتعدى ذلك للحديث عن التوسع في المباح مقابل ترك الواجب؟ أم أن هناك قيمة وصفة وعلاقة بين الأمرين هي التي ستكون الفيصل في الهزيمة أو النصر؟
اقرأ أيضًا: لولا أن ربطنا على قلبها
قادني الفضول للتنقل في محركات البحث في التفسير؛ فوجدت الإجابة الأريبة في كتاب "في ظلال القرآن". يقول الكاتب: "هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل، إنه مقدم على معركة؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه جيش أمة غالبة، فلا بدّ إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة.
هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها؛ فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء، فلا بدّ للقائد المختار إذن أن يمتحن إرادة جيشه، وصموده وصبره، صموده أولًا على الرغبات والشهوات، وصبره ثانيًا على الحرمان والمتاعب.
ودلّت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي؛ ولا بدّ من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها، كما دلّت على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى، بل مضى في طريقه، وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت إلى حد ما.
واختار هذه التجربة، وهم كما تقول الروايات، عطاش؛ ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية، وقد صحت فراسته". كانت العلاقة بين شرب الماء والمعركة، علاقة عينة لو صح التعبير (échantillon)، فمن ينجح في الاختبار التافه البسيط ينجح في الاختبارات العظمى، والعكس صحيح، وكأن الإرادة عضلة، تُمرن بالصمود وعدم التنازل مقابل الشهوات الصغرى، لتكون عصية على المواقف الكبرى" فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ".
يضيف المؤلف :"شربوا وارتووا، فقد أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم. انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم، وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة، والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق".
ودلّت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي؛ ولا بدّ من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها، كما دلّت على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى، بل مضى في طريقه، وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت إلى حد ما.
اقرأ أيضًا: رب الخير لا يأتي إلا بالخير
ونعود هنا للصفة التي وصفه الله بها وكانت أساس اختياره: "قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ"، إذن فإن العلم هو أحد أهم معايير اختيار الله للعبد لأداء المهمات الكبرى. "فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ"، وهنا برزت الفئة المؤمنة، الفئة القليلة المختارة، والفئة ذات الموازين الربانية.
"قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ"، القاعدة هي أن تكون الفئة المؤمنة قليلة؛ لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاقّ حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة، وهي قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين.