يومية 1: حوار سابق
شيماء الفتاة النقية المثابرة التي كانت تعمل بصمت لتصنع من نفسها "بابا" في شغفه بتخصصه وعمله، شيماء التي حسدها من عرفها على أنها المرضية من أمها وأبيها، شيماء اللي "ولا غلطة"، شيماء التي لا أذكر أن حصل بيننا أي نقاش حاد أو أي زعل، شيماء اللي كنت أحزن عليها من شدة الضغط اللي وضعت نفسها فيه بطموحاتها ولكنني كنت في نفس الوقت أفخر بأنها ابنتي التي يشار إليها بالبنان.
"بابا، الوضع في غزة خطير جدًا، ويا ريت تيجي أنت وزوجك عندنا في الوسطى، وإن شاء الله بتفرج قريبا والكل بيرجع لبيته"، "يا بابا أنا ما يطلع بدون زوجي، وزوجي ما بده يسيب أهله، اللي كاتبه ربنا حيصير، كنا هنا في غزة ولا في الوسطى." كان هذا حواري مع مهجة قلبي شيماء في ثاني أسبوع من الحرب الهمجية على غزة، وبعد محاولات على مدار أيام متتالية، وازدياد الخطر في غزة واضطرارها وزوجها للنزوح من بيتهم، اقتنعت وانتقلت إلينا مع ابنها تيسير "تيتو" دون زوجها إلى النصيرات في وسط قطاع غزة.
يومية 2: النزوح
عشنا معًا مع ما يزيد عن ٨٥ نازحًا ما يقارب ٧٠ يومًا من أيام الحرب القاسية في بيتنا، ورغم قساوتها كانت جميلة، بوجود من أًُحِب حولي، بناتي المتزوجات الثلاث بأطفالهن، وأختي وأخي ووالدتي وأنسبائي، تكاد كل صلواتنا تكون في جماعة، صمنا النوافل ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، ضحكنا، لعبنا، خفنا، وصَبَّرنا بعضنا البعض، كانت شيماء كالدينامو في البيت، لم أراها تضيع لحظه حتى في أحلك أوقات الحرب، قد يبدأ نهارها بجلسة معي في الصباح الباكر على كوب من الشاي، نتحدث فيه عن خوف الليلة الماضية أو عن ما نخططه للأيام والشهور القادمة.
ثم يبدأ جدولها في النهار، مساعدة في عمل البيت، قراءة في كتاب، ترتيل للورد اليومي من كتاب الله، مراجعة حفظ كتاب الله، جلسة مع ابنها الفطن الذكي ذو الثلاث سنوات تيسير (تيتو) تعلمه ما تنمي به قدراته الذهنية، وهكذا حتى يحين موعد النوم المتقطع بانفجارات القصف الغادرة ورعب الأطفال وبكائهم.
يومية 3: الاستشهاد
في 22 ديسمبر قررنا مغادرة بيتنا جميعًا لأن منطقتنا أصبحت قريبة جدًا من منطقة العمليات الهمجية للاحتلال، فقررت أن أغادر مع أبنائي وبناتي إلى دير البلح. عشنا أسبوعان آخران من الهدوء النسبي كان لنا فيها نصيب من التعارف على شخصياتنا أكثر فأكثر، فالحرب قذرة، ولكن قلوب الأحبة تزداد فيها اقترابًا، وفيها تعرف من يحبك بحق ومستعد لأن يفعل كل شئ حتى لا تشاك بشوكة.
في ذلك اليوم الحزين، ٦ يناير ٢٠٢٤، اجتمعت الأخوات جميعًا صغارًا كبارًا ليغسلن الملابس يدويًا في حديقة بيت الخال، كان الجميع غاية في التعب، غاية في السعادة، ضحكنا كثيرًا على حالنا الأليم، تعالت ضحكات الصبايا الست في فيديو التقطه لهن وهن يعملن لساعات طويلة لينجزن ما تنجزه الغسالة في ساعة واحدة وحولهن أطفالهن ومن بينهم تيتو يمرحون بين ماء الغسيل وخضرة المكان، في تلك الأثناء لم نكن نعلم أن "الزنانة" (الطائرة المسيرة) الغادرة بصوتها المزعج فوق رؤوسنا ومن خلفها ذلك الجندي الجبان الذي يقودها، أزعجها ضحكات ملاكاتي رغم الألم، وقهرها سعادتهم رغم قسوة الحرب، فأخذت إحداثيات بيتنا "الآمن" لتقتل فينا الفرحة بعد ساعات وإلى الأبد، طائرة حربية من تتار هذا الزمان تهدم البيت فوق رؤوسنا لتكتم فينا كل معنى للسعادة، لتخمد أصوات أطفالنا وإلى الأبد.
في الساعة العاشرة و ٤٠ دقيقة استيقظت على صوت الحجارة تتساقط فوق رؤوسنا، وبعد أن استطعت انتشال نفسي وابنتي الصغيرة مريم التي تنام قريبة مني من تحت الركام، بدأ عقلي يتفجر من هول ما رأيت، ومن هول ما أتوقعه، بدأت حافي القدمين، دامي الرأس وأصابع اليد، مكسور الكتف أبحث عن ناجين بين الركام، ولكن المشهد أصعب مما يتخيله بشر.
طائرة حربية من تتار هذا الزمان تهدم البيت فوق رؤوسنا لتكتم فينا كل معنى للسعادة، لتخمد أصوات أطفالنا وإلى الأبد.
خلال دقائق تجمع أهل الحي ثم وصل الإسعاف وطواقم الدفاع المدني وانتشلوا من انتشلوا دون أن أعرف من نجا ومن لم ينجو، انطلقت إلى المستشفى لأحصي من وصل، أدخلوني بداية ثلاجة الشhداء، لأتعرف عليهم، ويا قساوة تلك اللحظة، أن تفتح كيسًا تتمنى أن لا يكون لأحد يخصك، ولكنه قدر الله، اثنتين من بناتي و حفيدتان كانتا بين من ارتقى في اللحظة الأولى.
حمدت الله على أقداره، ثم دعوته راجيًا أن يكون الباقي من الناجين، ولكن قدر الله كان غير ما تمنيت، فشيماء وابنها لم يكونوا بين المصابين الناجين، ولكنهم أيضًا لم يكونوا بين الشhداء، عدت لأمنياتي ثانية بأن يكون ناجين تحت الركام وسيتم إنقاذهم، ولكن في السابعة صباحًا جاءوني بجسد تيتو الملاك الطاهر الصغير ذو الابتسامة الأخاذة والعقل الذي يفوق عمره بسنوات، ولكن الأكثر إيلامًا لي أن كل المحاولات لإيجاد د شيماء فشلت، فلم نستطع بإمكانياتنا البسيطة وأيدينا أن نجد جسدها الطاهر، وبقي ما بقي منه تحت الركام، لتصعد روحها إلى خالقها.
يومية 4: ابنتي شيماء "ولا غلطة"
الدكتورة شيماء جمال نعيم من مواليد ٢١ فبراير ١٩٩٦ في ألمانيا، الطفلة النجيبة الجميلة الرقيقة، التي أحبها كل من عرفها، من النباهة بمكان، أن قد طلبت لها مُدَرِّستها في الحضانة في ألمانيا استثناءً لتدخل المدرسة أبكر عامًا عن مثيلاتها في السن، عادت إلى فلسطين بعد الثالث الابتدائي، كانت مولعة بالمطالعة، والرسم، حفظت المصحف في سن صغيرة، تميزت في دراستها المدرسية والجامعية، فتخرجت الأولى على دفعتها في طب الأسنان بمعدل ٩٤.٦، عملت معي في مركزنا الخاص، فأصبحت يدي اليمنى في تقويم الأسنان، علاوة على عملها المتفاني في طب الأسنان العام، بدأنا نخطط لها معا لإكمال الدراسات العليا في التخصص، ولكن الله كانت له تقادير أخرى.
لم يمنعها دوامها المكثف عن الالتحاق بدورة السند المتصل عن رسول الله، وخلال ساعات الدوام لتعوضها في أيام أخرى، ولا عن الالتحاق بدورات في التسويق والبرمجة واللغة الفرنسية والعبرية وغيرها الكثير الكثير. اطلعت، بعد ارتقائها، على برنامجها المدون في هاتفها المحمول، تفاجأت من النظام والانضباط الذي وضعته لنفسها في كل مجالات حياتها، من أوراد قرآنية يومية، جلسات تربوية يومية مع ابنها، قراءات في كتب، ورسم وفن، كل ذلك كان لا يؤخرها لا عن عملها كطبيبة ولا عن واجبها كزوجة في بيتها ومع زوجها...
لا أستطيع أن أنسى ما قال لي زوجها يوما ما "أنا حاسس أنه ربي أعطاني بشيماء أكثر مما تمنيت، شيماء كثيرة عليا". ولا كلام حماها عنها "شيماء هي كل ما يتمناه المرء كنة وزوجة ابن، في أخلاقها ونشاطها وتفانيها وحبها للآخرين".
شيماء الفتاة النقية النقية المثابرة التي كانت تعمل بصمت لتصنع من نفسها "بابا" في شغفه بتخصصه وعمله، شيماء التي حسدها من عرفها على أنها المرضية من أمها وأبيها، شيماء اللي "ولا غلطة'، شيماء التي لا أذكر أن حصل بيننا أي نقاش حاد أو أي زعل، شيماء اللي كنت أحزن عليها من شدة الضغط اللي وضعت نفسها فيه بطموحاتها، ولكنني كنت في نفس الوقت أفخر بأنها ابنتي التي يشار إليها بالبنان.
عندما كانت تراني منهكًا جسديًا في المركز أو سارحًا بخيالي وعقلي، أتذكر ابتسامتها الرقيقة وربتها على كتفي قائلة: بتهون يا بابا، والله قريب لنريحك من كل هالتعب.
يومية 5: وداعًا تيتو وشيماء
أتذكر ابنها المشاغب الذكي تيتو الذي كان يداوم معنا في المركز كل يوم بعد الحضانة، وهو يجري بين غرف المركز باحثًا عن أمه، فقد كان شديد التعلق بها، فيراها تعمل فيبتسم ابتسامته العريضة ويضم عينيه الصغيرتين، ثم يأتيني ليشرح لي عن حيوانات المزرعة التي ما كان يمل من قرائتها ولا من الحديث عنها ولا تمثيلها كل يوم.
ذهبت شيماء إلى بارئها ومعها كل أحلامي الجميلة، وذهب معها تيتو الحبيب، فقد كانا مرتبطين في الدنيا رباطًا لا يفصله بشر، فقدر الله لهما أن يكونا معا في الشhادة. أُشهد الله بأنني كنت راضيًا عنها وما زلت، لمثل شيماء تليق الجنة.