الجمعة 09 فبراير
أنا الدكتورة شيماء جمال نعيم، من غزة، ولدت في ٢١ فبراير ١٩٩٦، في ألمانيا، كانوا يقولون إنني كنت طفلة نجيبة، أحبني من عرفني، قال لي أبي إنني كنت ذكية نبيهة؛ إذ طلبت لي مُدَرِّستي في الحضانة في ألمانيا استثناءً لأدخل المدرسة أبكر بعام عن مثيلاتي في السن، عدت إلى فلسطين بعد الثالث الابتدائي.
كنت مولعة بالمطالعة، والرسم، حفظت المصحف في سن صغيرة، وقد تميزت، بفضل الله، في دراستي المدرسية والجامعية، فتخرجت الأولى على دفعتي في طب الأسنان بمعدل ٩٤.٦. عملت مع أبي في مركزه الخاص لطب الأسنان. فأصبحت يد أبي اليمنى في تقويم الأسنان، الذي أراد دومًا أن أكمل دراساتي العليا.
لم يمنعني دوامي المكثف الالتحاق بدورة السند المتصل عن رسول الله، وخلال ساعات الدوام لتعويضها في أيام أخرى، ولا عن الالتحاق بدورات في التسويق والبرمجة واللغة الفرنسية والعبرية وغيرها الكثير الكثير. كنت أضع تقويمي على هاتفي لأضبط وأنظم مهماتي، وما يجب إنجازه يوميًا من أعمال، من أوراد قرآنية يومية، جلسات تربوية يومية مع ابني، قراءات في كتب، ورسم وفن.
متزوجة ولدي طفل واحد اسمه أسامة "تيتو"، كان يقول زوجي لأبي: "أنا حاسس أنه ربي أعطاني بشيماء أكثر مما تمنيت، شيماء كثيرة عليا". وحماي يقول: "شيماء هي كل ما يتمناه المرء كنة وزوجة ابن، في أخلاقها ونشاطها وتفانيها وحبها للآخرين".
أبي قدوتي، ولطالما اجتهدت لأشبهه، لا أذكر أن حصل بيننا أي نقاش حاد أو أي زعل، بل كنا نتشارك العمل والتعب معًا، كنت أجد نفسي في والدي. أما تيتيو ابني المشاغب، فكان يداوم معنا في المركز كل يوم بعد الحضانة، وهو يجري بين غرف المركز باحثًا عني، فقد كان شديد التعلق بي، فيراني أعمل فيبتسم ابتسامته العريضة ويضم عينيه الصغيرتين، ثم يأتيني ليشرح لي عن حيوانات المزرعة التي ما كان يمل من قرائتها ولا من الحديث عنها ولا تمثيلها كل يوم.
طلب أبي مني الذهاب والانتقال للسكن معه ولكنني أردت البقاء منع زوجي وعائلته، وفي 22 ديسمبر قررنا مغادرة بيتنا جميعًا لأن منطقتنا أصبحت قريبة جدًا من منطقة العمليات الهمجية للاحتلال، فقررنا المغدرة جميعًا، أخواتي وأزواجهن، وعائلتي. عشنا أسبوعان آخران من الهدوء النسبي كان لنا فيها نصيب من التعارف على شخصياتنا أكثر فأكثر، فالحرب قذرة، ولكن قلوب الأحبة تزداد فيها اقترابًا، وفيها تعرف من يحبك بحق ومستعد لأن يفعل كل شئ حتى لا تشاك بشوكة.
في ذلك اليوم الحزين، ٦ يناير ٢٠٢٤، اجتمعت أخواتي جميعًا صغارًا كبارًا ليغسلن الملابس يدويًا في حديقة بيت الخال، كان الجميع غاية في التعب، غاية في السعادة، ضحكنا كثيرًا على حالنا الأليم، تعالت ضحكات الصبايا الست في فيديو التقطه أبي لنا ونحن نعمل لساعات طويلة لينجزن ما تنجزه الغسالة في ساعة واحدة وحولنا أطفالنا يمرحون بين ماء الغسيل وخضرة المكان.
في تلك الأثناء لم نكن نعلم أن "الزنانة" (الطائرة المسيرة) الغادرة بصوتها المزعج فوق رؤوسنا ومن خلفها ذلك الجندي الجبان الذي يقودها، أزعجها ضحكاتنا رغم الألم، وقهرها سعادتهم رغم قسوة الحرب، فأخذت إحداثيات بيتنا "الآمن" لتقتل فينا الفرحة بعد ساعات وإلى الأبد، طائرة حربية من تتار هذا الزمان تهدم البيت فوق رؤوسنا لتكتم فينا كل معنى للسعادة، لتخمد أصوات أطفالنا وإلى الأبد.
في الساعة العاشرة و٤٠ دقيقة استيقظت على صوت الحجارة تتساقط فوق رؤوسنا، نجى أبي وأختي، واستشهد صغيري تيتو بعد أن تعرف أبي إلى جثمانه، بينما لم يجدني أنا..فقد تنائرت أجزائي تحت الردم، لكني شعرت بأنفاسه وهو ينبش الصخر والتراب بحثًا عني، لا تبتأس يا أبي، لا تحزن... لله درك، كنت خير رفيق في الدنيا ونعم الأب والقدورة... ألقاك يا أبي في جنات عرضها السموات والأرض.