وحدها مع زوجته، وحدهما، هكذا حرفيًّا. حملا همّ قضيّته واعتقاله القاسي لدى السلطة، دارا على مقرّات الأجهزة الأمنية، وحدهما، طرقا باب المحكمة العليا، وحدهما، وسّطتا مؤسسات حقوق الإنسان، وحدهما، استنجدتا بالمحامين، وحدهما، تكفّلتا بكل ما يلزمه، وحدهما، انشغلتا به، طعامه، وشرابه، وكتبه، ومجلاته، وملابسه، وزياراته، والسعي لعلاجه أثناء اعتقاله، وحدهما، لا أحد سواهما.
ذات مرّة وقد أقلّت زوجته حملَه على ذراعها، يتكئ عليها في يوم ثلجي عاصف، تقوده إلى مخبئ له، حين كان مطلوبًا للاحتلال، ثم وسّدته حجرها في غرفة فقيرة من الأثاث، وألقت سكينتها على جسده المثقل بالحمّى والمرض، حتى إذا استفاق بعد ساعتين، وجدها قد ألقت عليه ثوبها، وقد صار البرد عليهما دفئًا وسلامًا... لا شيء يتذكره هنا، سوى أنها قالت له في ساعة جدال بينهما: "ما تزوجتك إلا لأدخل بك الجنّة".
عرسها لم يكن كأيّ عرس.. إذ أخذها من قاعة عرسها إلى شقّة لا تدري بها، ولا يدري بها أيّ أحد، ثم ظلّت تلاحقه من مخبئ إلى آخر، تحمل له طعامه وملابسه، وتدبّر له أمر دراسته في الجامعة التي طال شأنه معها، وكأنّها -وهي زوجته- كأخت موسى، تغامر، فيما يحجم عنه الرجال، ليستند إليها رجل، حتى كادت تُقتل حينما اعتقلته القوات الخاصة من شارع في قلب رام الله، وهي متشبثة به، وحدها متشبثة به، ليقتلعوها عنه بدفعها ورميها على الأرض، لكنّ جذرها ظلّ في قلبه.
| كدٌّ وكَبَدْ
وحدها بعد زواجها ساري عرابي، حملت كتفًا عن أمه، تزوجته قبل أن تتخرج من جامعتها، وتخرجت وهو في سجنه لدى الاحتلال. وعملت كي تتدبّر له أثمان كتبه ومجلاته في سجنه، أرهقها بذلك كله، وأرهقها هي وحماتها، وهما تنظران فرادة حالته في سجنه لدى السلطة، أو ندرتها، وقلة شركائه في عين محنته. تأتيان متصبرتين لتغسلاه من همّه، فترجعان بهَمّ الأرض كله بعدما تعاينان حاله في أسره.
الكتابة عن شخص تعرفه أمر صعب للغاية، ولكنني على الأقل أدرك أن الأدوار مقسّمة في هذه الحياة؛ ثمة من يفكرون، وثمة من يكتبون، وثمة من يفعلون. دعونا نتوقف عند هؤلاء قليلًا، نحاورهم ونسمع منهم، ونتعلم من تجاربهم. ربما يصبون علينا القليل من بحور الصبر لديهم، أو ربما يغدقون ولو بجزء يسير من طمأنينة تملأ عالمًا من قلب صغير. هؤلاء تحديدًا يمتلكون طاقة، تحوّل الأشياء من حالتها بالقوة، إلى الفعل، فيكونون عللًا فاعلة، وهي مستبشرة!
إنهم عرابو النجاح، وظلال الأبطال، وخطوط الدفاعات الأولى والأخيرة، والكواليس التي تحضّر لحدث كبير، وفرجة مؤثرة، ويصنعون للشخوص مكانًا في الذاكرة. كان لي حوار اليوم مع أملِ رجلٍ قسم الله له من هذه الدنيا عظيم الابتلاء.
أملِ رجلٍ وقف خلف باب مغلق، تبصر له، وتعينه، وتدفعه نحو الأمام.
أملِ رجلٍ وقف خلف باب مغلق، تبصر له، وتعينه، وتدفعه نحو الأمام. وسبحان الذي قسم لها من اسمها هذا النصيب. أمل راشد، امرأة ثلاثينية، ومعلمة مدرسة، وهي بطبعها هادئة ومستقرة، يبعث الحديث معها على السكون، وتنشر الطمأنينة لمن حولها بشكل عجيب. تزوجت من الأستاذ ساري عرابي وهو الناشط الطلابي السابق في جامعة بيرزيت، وأحد تلامذتها في مرحلتي البكالوريس والماجستير، وهو كاتب وناقد ومحلل سياسي.
عند سؤالي لأمل عن لقائهما وتعارفهما، قالت: "هو من نفس بلدتي رافات، ولكنني لم أكن أعرفه جيدًا، إلا من خلال الجامعة، وكلانا ناشطان في الحركة الطلابية، وقد ارتبطنا خلال فترة دراسته الجامعية، حيث استمر في الجامعة أحد عشر عامًا، ما بين اعتقال ومطاردة من قبل الاحتلال والسلطة. وبالطبع فقد تزوج خلال هذه الفترة، لأنه لم يعرف متى سيتمكن من التخرج".
وعند سؤالي لها عن فترات اعتقاله وعمّا كانت تتحمله من مسؤوليات، قالت: "بالنسبة لفترات الاعتقال فقد كان أولها سنتين، ومن ثم خرج، وسرعان ما أصبح مطاردًا لا يستقر في مكان ولا يهدأ أبدًا، وبالطبع، انعكس ذلك على كونه طالبًا في الجامعة حيث لم يتمكن من حضور المحاضرات أو تقديم الامتحانات. لقد كنت أحضر له كراسات المحاضرات وأنسق مع الأساتذة لترتيب امتحانات خارج الجامعة، وقد كانوا متعاونين بالفعل".
| تجرّع المرّ
ولكن كيف تزوجتما في ظل الاعتقال والمطاردة، عاجلتها بالسؤال، فأجابت دون تردد: "كان أغرب زواج على الإطلاق"! وضحكنا معًا. أردفت قائلة: "تم اعتقاله بحكم إداري ظالم لمدة تسعة أشهر، ومن ثم خرج ليتم اعتقاله بعدها لمدة خمس شهور، وبالطبع، كنّا لا نستطيع تحديد موعد الزواج في تلك الفترة، بسبب الاعتقال والمطاردة. وعندما تزوجنا كانت الظروف صعبة جدًا، فلم يكن من السهل إقامة حفل زفاف في ظروف طبيعية، ولم ننعم بالاستقرار كما كل الأزواج. حيث أقمنا عرسًا في رام الله. وعقب حفل الزفاف فورًا بدّلت ملابسي في نفس المكان، وذهبنا إلى مكان لم أعرفه قط قبل ذلك، لقد كانت مشاعري متضاربة، يتسلل إليّ الخوف أحيانًا، واستشعر أمنا تارة أخرى لأنه بجانبي".
كان سؤال الأحاسيس التي انتابت أمل وقتها مهمًا بالنسبة لي، فكيف لها أن تعطي إن كانت خائفة، تقول: "لم أكن أعلم أني على قدر من القوة، لم أختبر أياما كهذه سابقًا، أذكر حادثة لن أنساها ما حييت؛ ففي يوم ما وبينما كنا نسير معا في رام الله، تفاجأنا بقوات خاصة تختطفه أمام أعين الجميع وبكل وحشية! لقد بقيت وحيدة في الشارع، مصدومة من هول الحادثة، لن أستطيع وصف ما شعرت به وقتذاك... لقد كان مؤلمًا حقًا".
سارعتها إذا ما كانت قد تجاوزت الصدمة، وكيف تعاملت مع ظروف الاعتقال. صمتت أمل قليلًا، وكأنها أعادت شريط ذكريات لا تريد لها أن تعود: "حكم على زوجي في ذلك الوقت مدة 16 شهرًا، ولم أكن أزوره أبدًا بسبب المنع الأمني، كنت أتواصل معه قدر المستطاع، أحاول أن أحمل كتفًا عن أمه وأخوته في غيابه، يصبّر أحدنا الآخر، أمه أمرأة عظيمة، منحتنا قوة نستطيع أن نجابه بها ظلم السجان. عندما خرج أكمل المواد غير المستكملة في الجامعة، ولكنه رفض حضور حفل التخريج، لأن أقرانه وزملاءه الذين بدأ معهم الدراسة كانوا قد تخرجوا قبله بسبعة أعوام".
لم تنته القصة هنا.. حيث اعتقلته أجهزة السلطة وحكم لمدة ثلاث سنوات ظلمًا وجورًا. تقول أمل وقد سيطر على صوتها الحزن دون إرادتها: "لقد كان هذا الاعتقال أسوأ مما سبقه من اعتقالات، فلم يُعين له محام، ومنعنا من حضور المحكمة، وتعرضنا في كل مرة نذهب بها للإهانة وللشتائم. وفعليًا لم يكن لزوجي من معين بعد الله سواي وأمه. كنا نسعى يوميًا لدى المؤسسات والجهات الحكومية والرسمية بسبب تردي وضعه الصحي، والظروف السيئة التي كان يعيشها لديهم، ولكننا لم نجد آذانا صاغية وشعرت أن الكل كان خائفًا من التدخل. حتى أن أحدهم قال لي: "أحمدي الله انو بعدو عايش"!
| وهل من معين؟
ماذا فعلت أمل وما الذي يمكن أن تفعله، كيف يمكن للمرء أن يستجمع قواه ويعيد بناء ما عجز من قلب ومشاعر وقوى روح مشتتة بين الأم والأهل والزوج السجين! تتابع أمل بعزم، دون أن تخونها دموعها: "ما خليت مؤسسة حقوقية إلا ورحت حكيت معهم، ومع نواب التشريعي، ومع أشخاص في المحكمة العسكرية، عشان يدخلوا يعملوا اشي..بس على الفاضي. أنا وأمه، بين المؤسسات الحقوقية والمحامين والأطباء، ساري معو دسك وعمل عملية مرارة..كانت أيام صعبة".
لم يبق سوانا، نسأل، ونحاول الاطمئنان.. ولا مجيب. رفض الجميع تقديم المساعدة بسبب الخوف حتى الأهل والأقارب. كان الوحيد الذي حكم ثلاث سنوات في تلك الفترة، أكبر الأحكام كانت لمدة ثلاثة شهور. أُرهقنا ماديًا ومعنويًا... حتى أنه احتاج لأداء عملية جراحية، وطلبنا أن يبقى في رام الله لاستكمال علاجه وسوء وضعه الصحي".
" وتمامًا كما كان يشرب الحسرة وأمّه تقول له "أنا مين إلي غيرك بعد الله"، وهو يقول في نفسه "بل أنا.. مين إلي غيرك بعد الله".. كان يضحك وزوجه تقول له: "أنت سندي في هذه الحياة" وقد استند عليها طويلاً، ولم ير منها، ولو مرّة واحدة استغرابًا لانعكاس الحال، أو ضيقًا من ضيق الحال".