بنفسج

الإبادة الجماعية في غزة: مُحتل يقتُل ويدفن في مقابر جماعية

الجمعة 10 مايو

"أبيضاني وطويل.. ولابس جاكيت توتي".. أيوجد في الدنيا أصعب من وصف الأموات وصفًا دقيقًا وتتبع علاماتهم الجسدية وملابسهم، وشكل أسنانهم، ليتعرف عليهم ذويهم في ظل المحرقة الأكبر في التاريخ العربي المعاصر، أيحدث أن تقف الأم أمام بضع جثث لتعاينها جثة جثة، وتتمعن في رسم الوجه إن كان ظاهرًا أصلًا ولم يتحلل أو يتشوه بفعل الإجرام الإسرائيلي؟

 ما يحدث ضربٌ من ضروب الجنون، أي محرقة هذه! أي جنون! أي ألم! أن ترى جثثًا مدفونة مصطفة فوق بعضها بطريقة عشوائية بحتة مكفنة بأكفان بلاستيكية، لا اسم عليها ولا صفة، بعضها مبتور الأطراف، مسروق الأعضاء، مشوه الوجه، مكبل الأيدي. سعيد الحظ من يتعرف عليه أحبته ليكرم بالدفن، ويسعد أحبته بلقاء جثته لنيل شرف الوادع الأخير، وحقيقة لم يكن وداعًا بقدر ما هو ملحمة من نار ودموع.

آلالاف المفقودون في غزة: شهادات حيّة

الصحفية دعاء روقة.jpg

في مشفى ناصر بخانيونس وبعد انسحاب البلدوزرات الإسرائيلية التي أمعنت في التدمير والخراب والقتل، تم اكتشاف مقبرتين جماعيتين، دفن فيها الجيش الإسرائيلي حوالي 700 فلسطيني تم إعدامهم بشكل متعمد.لم ينفك عبد الله أبو مصطفى وهو والد شهيدة مفقودة البحث عن ابنته، وظهر في فيديو وهو يرتدي الكمامة لتخفف من روائح الجثث المتحللة، يقول: "70 % من الجثث مجهولة الهوية، لقد وجدنا الرؤوس بالأسفل والأرجل في الأعلى، لا أحد يعلم من هؤلاء، أهالي الشهداء يتعرفون على أولادهم من ملابسهم".

أما أم نبيل عندما وجدت جثة ابنها ركضت نحوه مباشرة وهي تصدح بالزغاريد، وبيديها الورود التي نثرتها على الكفن، "هاتولي قلم اكتب عليه، يما ريحتك مسك يما، والله يما أنك أجمل واحد، يما حافظ القرآن والأحاديث يما، صوره يما، هي عطرك يما، هادا نبيل ابني جاكيته هاد، والله لاحليكو والله ابني حكيتلكم هاد ابني".

أما فؤاد العتال وصله خبر استشهاد شقيقه علاء في 24 يناير المنصرم، بعد إطلاق النار المباشر عليه من قبل الجيش الإسرائيلي، فاضطر لدفنه في مشفى ناصر بخانيونس بسبب صعوبة نقله للمقابر آنذاك،  كتب اسمه على الكفن، وحفر قبرًا بجوار شجرة نخيل، ثم وضع حجرين على القبر ليسهل عليه العودة للمكان مجددًا ونقل الجثمان للمقبرة، لكنه حينما عاد بعد انسحاب الجيش لم يجد الشجرة ولا الحجارة ولم يعرف شكل المكان من التجريف الجاري فيه، وظل أسبوعين هو ووالدته يبحثان عن علاء ولكن دون نتيجة تذكر.

"70 % من الجثث مجهولة الهوية، لقد وجدنا الرؤوس بالأسفل والأرجل في الأعلى، لا أحد يعلم من هؤلاء، أهالي الشهداء يتعرفون على أولادهم من ملابسهم".

لم يكن فؤاد الوحيد الذي لم يستطع إيجاد جثة شقيقه بل مثله الكثيرون ممن يتمنون أن يجدوا جثث ذويهم ليكرموهم بالدفن بشكل لائق، إذ تجريد الشهداء من ملابسهم يسبب صعوبة في التعرف على هوية الشهيد من قبل عائلته إذ لا علامة مميزة سوى الملابس وخصوصًا إن كانت الجثة تحللت. فهذه رائدة أبو العلا تبحث عن نجلها جمال: "كل يوم باجي لعل وعسى ألاقيه، وصيته يندفن مع أبوه بنفس القبر، بدور بس مش لقياه".

محتل يقتُل ويدفن في مقابر جماعية

المقابر الجماعية في مستشفى ناصر الطبي في خانيونس.webp
عمال من الصحة في غزة يحملون جثة عثر عليها في مقبرة بمستشفى ناصر في خان يونس، 23 أبريل 2024

يقول محمود بصل في حوار صحافي سابق عن اختفاء الجثث: "الاحتلال يتعمد إخفاء جثث الضحايا كما حدث في مشفى ناصر، وأيضًا توجد جثث تتبخر بفعل الصواريخ، وهذا ما عايشته عندما استهدفتني الطائرات بشكل مباشر، إذ كان معي 3 أشخاص اختفوا تمامًا، فهل الاحتلال يستخدم صورايخ بنوعية معينة تتسبب في تبخر الجثث؟ يجب على الجهات المختصة متابعة هذا الأمر والتحقيق فيه لتعلم ماهية ما يستخدمه الاحتلال ضدنا".

إن آهات الأمل في حضرة الموت قاسية جدًا، فالأمل مرض عضال لا شفاء منه، لم يفقد الأحبة أملهم في العثور على أجساد ذويهم، يناظرون التراب المعجون بالدماء وبقايا الأشلاء، وينتظرون وجوه جديدة من التي ينبشها العاملين في عملية البحث، الصحافية دعاء روقة عايشت الحدث عن قرب، ألتقت بأمهات بارعات في معركة الصبر، أم محمد زيدان واحدة ممن ألتقتهن دعاء فأثرت بها، تقول: "كانت أم محمد تأتي يوميًا لعل وعسى تجد جثة ابنها، أنظر لها وأتعجب من صمودها وأملها، كل المعطيات تشير إلى أنها لن تجده، ولكنها تقسم أنها ستجده، كانت تجلس وسط الرائحة الكثيفة للجثث، وكلما يتم إخراج جثث تركض وتقول ابني ابني، رأيتها في آخر يوم لانتشال الجثث وكانت تلك آخر مجموعة تم إيجادها ركضت فوجدت ابنها، وصارت تقول لي هذا عرس ابني".

إن الاصطدام بالجثث المترامية واختلاط الدم باللحم والعظم التي طحنته آلالات الحرب الإسرائيلة، لا شك أنه شيء قاس على النفس البشرية، دعاء لم تستطع تحمل البقاء وسط الجثث فعملت ثلاث أيام فقط، تضيف: "من أكثر المواقف الصعبة في تغطية هذه الحرب هو نقل حدث انتشال 392 جثة من المقابر الجماعية في مستشفى ناصر، انتهت العملية بعد 7 أيام وهناك أعداد لا تزال مفقودة، عملت منها 3 أيام فقط، ولازلت أعاني من أرق شديد وكوابيس مما رأيته، حتى أن رائحة الحدث لازالت عالقة فيني وأفتقد شهيتي هذه الفترة!"

"كانت أم محمد تأتي يوميًا لعل وعسى تجد جثة ابنها، أنظر لها وأتعجب من صمودها وأملها، كل المعطيات تشير إلى أنها لن تجده، ولكنها تقسم أنها ستجده، كانت تجلس وسط الرائحة الكثيفة للجثث، وكلما يتم إخراج جثث تركض وتقول ابني ابني، رأيتها في آخر يوم لانتشال الجثث وكانت تلك آخر مجموعة تم إيجادها ركضت فوجدت ابنها، وصارت تقول لي هذا عرس ابني".

يُذكر أن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قال في بيان له: "إن اكتشاف المقابر الجماعية في المشافي الفلسطينية بغزة تثير شبهات بأن الاحتلال الإسرائيلي عمد لتنفيذ إعدامات ميدانية خارج إطار القانون بحق الكثيرين من المحتجزين لديه، ثم دفنهم، إذ تم العثور على جثث مكبلة بالكامل، وجثث كانت تتلقى العلاج داخل المشافي، مؤكدًا على وجوب التحقيق الدولي في هذه الجرائم الغير مسبوقة. "