من كان ليعلم أن ثورة ستنطلق من رحم أكبر جامعات العالم، اعتصامات وتظاهرات واحتجاجات تضامنًا مع غزة هي الأكبر من نوعها، بل إن هناك إجماع على أن الحراك الطلابي يشبه في زخمه، أو يتجاوز، الحراك الشعبي ضد حرب فيتنام في عام 1968.
قادة التحركات والاحتجاجات هم طلاب نخبة الجامعات الأميركية، مثل كولومبيا وييل ونيويورك وهارفارد وغيرها من الجامعات والمعاهد المركزية في الولايات المتحدة، وجميعها ينتمي لرابطة اللبلاب (ivy league) التي تضم أشهر وأقدم وأعرق جامعات الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم. الاحتجاجات وعمليات نصب الخيم امتدت إلى أكثر من 75 جامعة أميركية حتى الآن، فضلا عن انتشارها في جامعات الدول التي تساند إسرائيل في عدوانها، مثل فرنسا وأستراليا وبريطانيا وهولندا.
الاحتجاجات وعمليات نصب الخيم امتدت إلى أكثر من 75 جامعة أميركية حتى الآن، فضلا عن انتشارها في جامعات الدول التي تساند إسرائيل في عدوانها، مثل فرنسا وأستراليا وبريطانيا وهولندا.
كانت شرارتها بعد أن استعدت نعمت شفيق (مينوش) رئيسة جامعة كولومبيا الشرطة، والسماح باعتقال الطلاب دون استشارة أعضاء هيئة التدريس، وتحريف مجموعات الاحتجاج الطلابية وتعليقها، وتوظيف محققين خاصين. وقالت شفيق في جلسة الاستماع في مجلس النواب الأميركي: "هناك المزيد من العمل الذي يجب القيام به لمحاربة معاداة السامية ودعم الحرية الأكاديمية". في ما كانت هذه الحادثة مدعاة لتفجر الاحتجاجات وازدياد عدد المتظاهرين الذي طالبوا بحجب الثقة عنها والتأكيد على حقهم بحرية التعبير ومساندة الشعوب المظلومة، انتشرت الانتفاضات الطلابية تباعًا في معظم الجامعات الأميريكية الكبرى، وجامعات أوروبية عريقة مثل السوربون.
من أجل غزة: تضامن طلابي إنساني عالمي
إن داعي هذه الاحتجاجات وانتشارها بهذه السرعة هو التضامن الإنساني العالمي وحقوق الإنسان، وما زادها إلى أبعد من ذلك هي محاولة الحد منها بالأساس، إذ إن سؤال الحريات والتعبير عن الرأي في أميريكا والغرب عمومًا بدا سؤالًا ملحًا وراهنًا، والسؤال الذي يبرز هنا: لماذا يخاطر طالب أمريكي من جامعة عريقة بطرده من الجامعة أو حرمانه من الدخول إلى الحرم الجامعي من أجل حرب تحدث بعيدًا عنه، وربما لا تخصه ولا تمس به باعتباره مواطنًا أميركيًا أو أوروبيًا يعيش في دول الرفاه.
تبدو الرابطة الإنسانية والدوافع الأخلاقية جامعة في هذه الاحتجاجات ولا رادع لها عن استكمال دورها وانتشارها، وتوسع مطالبها، إذ كان الطلبة يطالبون بحماية الأطفال والمدنيين، ومن ثم وقف الحرب، وسحب الاستثمارات الإسرائيلية في الجامعات ومناطق التمويل الأخرى في الولايات المتحدة وأوربا، وهم الآن يدافعون عن حرياتهم، التي بدت واهية، في التعبير.
عبر نتانياهو في ظهور إعلامي له، وكان عابسًا متجهم الوجه، عن غضبة واستيائه من انتشار هذه الاحتجاجات، وطالب بقمعها ووقفها، وقال إنها تدعم الإرهاب وتحاول حماية من يرد القضاء على إسرائيل، وحذر من انتشار مما أسماه "معاداة السامية" بين أواسط الطلبة.
وبينما يخوض الطلبة نضالاتهم السلمية عن طريق الاحتجاج والتضامن والاعتصام في خيم، أو على الأرض في ساحات الجامعات، أو كما فعل طلاب جامعة كولمبيا عندما وضعوا لافتة "قاعة هند" على قاعة "هاملتون" المعروفة كشكل من أشكال التضامن. وإدلاء الخطابات التي تطالب بسحب الاستثمارات والدعم الأميريكي للحرب، وضمان حقوق الإنسان وتوحيد وجه العدالة التي تنادي بها الولايات المتحدة.
كما يرتدي الطلبة الكوفية الفلسطينية ويرفعون الأعلام كذلك، إلا أنهم وجهوا بالقمع والسحل والضرب وتوجيه الإنذارات والتهديد، خصوصًا بعد انضمام عدد من أساتذة الهيئة التدريسية من الجامعات ذاتها في بعض الاعتصامات وقد واجهوا، هم كذلك، الاعتقال والتهديد، كما حصل مع رئيسة قسم الفلسفة في جامعة إيموري البرفيسورة نويل ماكفي.
النضالات الطلابية حرب المنتصرين
لا ينفصل النضال الطلابي القائم الآن في الجامعات الأميركية عن تاريخ النضال الطلابي العالمي الذي كان له دور أساسي في مراحل مهمة من التاريخ، ومن ذلك نذكر النضال الطلابي في مارس (آذار) من 1968 إذ انطلقت مسيرات طلابية تندد بالحرب الأميركية على فيتنام، قوبلت بعنف شديد من الشرطة فاشتعل الموقف وزادت الاحتجاجات صلابة لتعم معظم الجامعات والمدارس في البلاد ثم انضم العمال إلى التمرد، وقام ما يقرب من 11 مليون عامل بالإضراب الأقوى في تاريخ فرنسا، وبدا أن باريس ستسقط في حرب أهلية لا محالة وفر الرئيس الفرنسي شارل ديجول إلى ألمانيا سرا.
ونذكر أيضًا دور الطلبة الفلسطينين واللبنانيين في الجامعات اللبنانية إبان الحرب الإسرائيلية اللبنانية، ولا ننسى من ذلك دور الحراكات الطلابية في فلسطين في الانتفاضتين الأولى والثانية.
ويوم اندلعت الثورة في مصر 9 مارس/آذار 1919، حين خرج طلاب مدرسة الحقوق بجامعة القاهرة في مظاهرات للاحتجاج ضد الاحتلال البريطاني، واعترضوا على نفي زعيم الحركة الوطنية آنذاك سعد زغلول و3 من رفاقه إلى مالطا، وانضم إليهم طلاب من مدارس مختلفة، وحاصرت القوات البريطانية المتظاهرين في ميدان السيدة زينب، واستخدمت العنف ضدهم، وتضامن الأهالي حينئذ مع الطلاب وألحقوا خسائر بالبريطانيين الذين استطاعوا فض المظاهرة، واعتقلوا 300 طالب. ومع استمرار الثورة، أُجبرت بريطانيا على الخضوع لمطالب الشعب، وسمحت لسعد وزملائه بالعودة من المنفى. وكانت تلك الثورة شرارة استقلال مصر وتحريرها من الاحتلال البريطاني.
امتداد الحراكات الطلابية
نظم طلاب في جامعة ترينيتي كوليدج دبلن في أيرلندا، وجامعة لوزان بسويسرا، وجامعة أمستردام، وجامعة باريس، والسوربون، وغيرها من الجامعات على امتداد أوروبا وأميركا اللاتينية كذلك، احتجاجا على الحرب الإسرائيلية في غزة، لينضموا بذلك إلى موجة من المظاهرات تجتاح الجامعات الأميركية حاليا.
ويطالب المحتجون بقطع العلاقات الأكاديمية مع إسرائيل وسحب استثماراتها من الشركات التي لها علاقات بإسرائيل، وطالبوا الجامعة بإدانة التصرفات الإسرائيلية. وردد الطلاب هتافات داعمة للفلسطينيين، ورفعوا الأعلام الفلسطينية على النوافذ وفوق مدخل المبنى. ووحدت النداءات والهتافات في معظم الحراكات الجامعية في أمريكا وأوروبا "تحيا غزة"، "أوقفوا الحرب"، "أوقفوا الإبادة"، وغير ذلك من عبارات الإدانة والغضب والمطالبة بوقف الاعتداءات الإسرائيلية التي تستهدف النساء والأطفال والمدنين بصواريخ تمويلها أوروبي أميركي.
وحدت النداءات والهتافات في معظم الحراكات الجامعية في أمريكا وأوروبا "تحيا غزة"، "أوقفوا الحرب"، "أوقفوا الإبادة"
وفي فيديو لاقى تفاعلًا واسعا انسحب طلاب جامعة فيرجينيا كوملولث احتجاجًا على الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة كان الطلبة يرتدون الأعلام والكوفيات الفلسطينية. ووردت كذلك مشاهد كثيرة لطلاب يغنون بشكل جماعي أغان فلسطينية، ويقلبون المقلوبة في حرم الجامعة وهي طبق فلسطيني تقليدي اعتدنا على مشاهدة قلبها في ساحات المسجد الأقصى تعبيرًا عن الصمود والبقاء.
احتفالات التخرج في أكبر جامعات العالم يُزينها علم فلسطين
بدأت الآن في منتصف أيار 2024 حفلات التخريج في معظم الجامعات في العالم، ويستغل الطلاب هذه الاحتفالات بكل الأشكال للاحتجاج والتظاهر، من بينها الهتاف الحار للطالبة تبسم فلسطين التي كانت قد حرمت من كلمة الطلاب المتفوقين ف يحفل الخريجين، بسبب تضامنها مع غزة، في، جامعة جنوب كاليفورنيا. ومن بينها كذلك دخول طالبة، في جامعة كولمبيا، بلباس التخرج مقيدة اليدين مرتدية الكوفية، للفت الانتباه إلى الحرب والسجن الكبير الذي يعيشه الغزيون منذ السابع من أكتوبر.
وطلاب جامعة بيترز الذين قدموا علم فلسطين تباعًا لعميدهم الذي كان قد رفض سحب الاستثمارات الداعمة للاحتلال. وطالب آخر في حرم أورايا الجامعي التابع لولاية كولورادو، يرتدي زي التخرج ملثمًا بالكوفية ويضع فوقها القبعة. وأما طلاب جامعة فرجينيا فخرج معظمهم في مشهد مؤثر من قاعة التخرج خلال كلمة حاكم الولاية احتجاجًا على الدعم الأميريكي.
طلاب جامعة بيترز الذين قدموا علم فلسطين تباعًا لعميدهم الذي كان قد رفض سحب الاستثمارات الداعمة للاحتلال.
وهكذا، تختلف طرق الاحتجاج والاعتصام ويبدع الطلبة كل يوم أشكالا جديدة، وهم لا يتوقفون ولا يملون ولا يتعبون، فالحرب لم تتوقف، والاعتداءات لا زالت مستمرة بوتيرة أعلى بعد قرار إسرائيل استئناف حربها على رفح وإعادة اجتياح الشمال مع دخول الحرب شهرها الثامن.
فلا نمل نحن كذلك من الاحتجاج والمقاطعة والنشر والدعم بشتى الوسائل والطرق، والتاريخ أثبت أن الحراكات الطلابية تنتصر دومًا، بل إن تأثيرها يؤثر على الرأي العام والمؤسسات الدولية وسياسات الدول الخارجية، فلا زال الشباب رافعة الأمم وعنصر التغيير الفاعل فيها على مر التاريخ.