بنفسج

التربية في زمن الطوفان: قيّم لن تعلمها المدارس لأطفالنا

الثلاثاء 28 مايو

تسألني ابنتي إيلياء التي لم تتجاوز ثماني سنوات، مرارًا، أسئلة كثير، كلما أدارت وجهها اتجاه شاشة التلفاز التي تبث مشاهد الحرب: أي يوم هو في الحرب؟ كم مات من الأطفال اليوم في غزة؟ وكم من الأمهات؟ وكم من الآباء؟ كم من البيوت هُدمت؟ فأجيبها دون مواربة! تذوي إليّ وتحضنني وتسألني ثانية: وهل يعيش الأطفال دون أمهاتهم، ألا يموتون من بعدهن؟

إن زرع قيمة في طفلك في هذا الزمن لهي جد غالية ثمينة، إذ سيحتفظ بها ما كان حيًا، وإن مر زمن الحرب وهو لا يزال في طفولته، فليأخذها معه في عمر النضوج والكبر، شجاعًا مقدامًا، قائدًا يسير إلى الحرية. وإننا لنراه جيلًا لا نكبات في عصره، بل زمن انعتاق وإباء.

من وحي الطوفان: دروس ومعانِ لن تُعلمها المدارس لأطفالنا 

كيف أشرح لطفلي ما يجري في غزة ومشاهد القتل والدم.jpg

في كثير من الأحيان يعلمنا الأطفال عندما نجهل كثيرًا من الحقائق التي تتعلق بالإيمان والقدر والوقت والحياة، وكثيرًا ما تعلمنا الحرب أن الحياة كما طريقها إلى الموت، قصيرة وزائلة، لحظاتها قصيرة نقطعها مسافات ولا ندري كيف ومتى المصير. هاي هي عائلات ممتدة لها تاريخها ووجودها وبيوتها وضحكاتها، اندثرت بحزم ناري وهجمات صاروخية في النصيرات، أو جباليا، أو حي الزيتون. كم كان حي الرمال جميلًا فهوت بناياته وسويت بالأرض.

نشهد على هذا كل يوم بأعيننا، وكأنها صيرورة تحيا معها الأشياء وتموت، ثم تعود لها الحياة مرة أخرى بإرادة أبنائها وسواعدهم. تعلمنا الحرب أن لا وقت للبغض والكراهية، فالحياة جد قصيرة، ومسيرتها مها كانت، فهي تجري أمام أعيننا بسرعة البرق. ولكن هذا لا يعني أن مأن سار الحزن في تسلله سهل يسير، إنها مدعاة إلى اغتنام لحظاتها التي تبعث من الحرب إلى خارج غلافها. فكيف نعزز قيمة الوقت الذي أصبحنا نتجلى معانيه في الموت والحياة في الحرب عند أطفالنا؟

احضري له تقويمًا واربطيه بتقويم الحرب: اليوم المئتان، مئتان وواحد، مئتان واثنين، وكم أن هذه الأيام التي يقضيها في اللعب والدراسة وتناول الطعام ثمينة جدًا، وهي ثقلية كذلك على الأطفال في الحرب، فهم لا يتوجهون إلى المدارس بل يبدأون نهارهم بجلب الماء، والبحث عن الطعام، والوقوف على صفوف توزيع الطعام، أو قد يقضونها تنقيبًا عن جثث عائلاتهم وأصدقائهم. لا داعي لذكر هذه التفاصيل المؤلمة لهم، ولكنها تجلي في عقول الكبار عن الوقت ومعانيه في مجتمعات الحرب. ولا تتردد في إخبار طفلك عن أعداد الشهداء مع تزايد الأيام، ولا تمتنع عن إجابته عن سؤاله حتى وإن كان غريبًا أو متناقضًا أو غيبيًا.

القرآن الكريم حاضر في غزة حربا وسلما.jpg

تقديس قيمة العائلة: كم قيمة هي الأوقات التي نقضي ونحن نحتضن أبناءنا، ونستمع إليهم، ونناقشهم، ونلعب معهم، ونزرع فيهم قيمة لا تزال فيها الحرية ترتبط بالتضحية والمقاومة والفداء. قيمة الوقت كذلك لدى طفلك لها علاقة بإنجاز الأشياء في أوقاتها، ولا مجال لتأجيلها، سواء كانت ترتبط بواجباته وأعماله ودراسته، أو حتى أعمالك اتجاه طفلك، ومن ضمنها عدم تأجيل المشاعر، لا تنظر طفلك حتى يكبر فتخبره بأنك تحبه، لا تنتظر حتى خوضه مباراة حتى تقول إنك فخور به، لا تؤجل قضاء الأوقات معه حتى تتقاعد، فالحرب تخبرنا أن لا وقت!

اقتربنا على موعد الامتحانات النهائية، وتتلوها عطلة صيفية طويلة، وهي ليست سيان على أطفال غزة في الدمار والقتل والتهجير. الوقت يعني لهم مزيدًا من الموت مزيدًا من الجوع، ولكنه كذلك مزيد من الشجاعة، إذ شاهدنا أفواجًا من حفظة القرآن من الأطفال يتخرجون، بعد أن قضوا وقتهم في حلقات التحفيظ في الخيم وأماكن النزوح أو في الشوارع، وهذا خلق للمكان والزمان من رحم الموت. وهو درس لا يقدر بثمن، نعلمه لأطفالنا لقضاء عطلتهم الصيفية في الحفظ والمذاكرة ومحاكاة الأوقات التي يقضيها الأطفال في غزة.

لا تشقوا على أطفالكم: لا تطالبوهم ما هو فوق طاقتهم في عطلتهم، ولا تقارنوا بينهم وبين أطفال الحرب في كل شيء، فليس من الطبيعي أن يدفن طفل تحت الأنقاض ويظل حيا يصارع الموت، ولا أن يفقد طفل عائلته فيظل ناجيا وحيدا في هذه الحياة، وليس من الطبيعي أن يفقد الطفل أطرافه، هكذا، لا لشيء، فقط لأن قوى الظلام في هذا العالم اتحدات كي يعيش ناقص اللأطراف طيلة حياته.

علموا أولادكم ألا ينسوا: من مفارقة الحرب أن العدو يصنع أجيالًا محاربين، يحلمون بأن يكونوا مقاتلين، مقاومين، من حملة السلاح، وهم يطبقون ما يشاهدونه على التلفاز وهم يلعبون مع أصدقائهم في الحي أو في المدرسة. لم يعد الجيل خائفًا، أو تابعًا، هذا الجيل يراقب الاحداث من حوله ويختزها في ذاكرته. ولا بأس، فلا ننسى ولن ينسوا ما يحدث منذ عام النكبة. ونحن مجبرون على تربية الجيل الذي يقوم حرب التحرير.

هل أدع أبنائي يشاهدون مشاهد القتل والدمار في غزة؟.jpg

تفكيك منظومة الحياة السائلة: إن ما صنعته التقانة عبر قرون من خلق قنوات متعددة ووسائط مختلفة ومؤثرين على تيك توك وإنستاغرام وسناب شات وغيرها من المنصات التي تتيح صناعة المحتوى مهما كان، يتابعهم الملايين ويمنحوهم ثقة ومناعة وقوة ومالًا، لتعموا أبناءكم أن هؤلاء صنيعة الناس أيضًا تُحجب الثقة عنهم عندما يخونونها، فإن صمتوا عما يجري فهم خائنون، وحرام علينا متابعتهم والتفاعل معهم بأي شكل.

كن قدوة في المقاطعة: المقاطعة سلاح أثبت نجاعته في الحرب، وكثير من المنتجات التي تجب مقاطعتها كانت محبوبة الأطفال، مثل نستلة، وماك دونلذز، وبلرنجلز، وأنواع الشكلاتة مثل كتكات وسنكرز وغيرها، قاطعها الأطفال بالاقتداء، من آبائهم وأمهاتهم ومن الأطفال الآخرين من أترابهم، حتى أننا تفاجأنا بأن الأطفال أكثر التزامًا من الكبار بالمقاطعة.

دروس كثيرة يمكن أن يتعلمها أطفالنا من الحرب على غزة طوفان الأقصى.jpg

اصطحبهم في الاعتصامات: اصطحاب الأطفال في الاعتصامات وارتداء الكوفية وحمل الأعلام وترديد الهتافات من أكثر الأمور التي تجعل الطفل مرتبطًا بقضيته، إذ أنه لن ينسى هذه الأوقات وسيطحبها في كل مراحله العمرية، ووستبقى عالقة في ذاكرته وسيكون فخورًا بنفسه، وسيعيد الكرة مهما تقدم به العمر.

إدراك قيمة النعم: كم نحن في نعم ونحن غافلون، لا تردد في التذكير بأهل غزة؛ طعامهم وشرابهم ومسكنهم وملبسهم. فإذا جلست على مائدة الطعام ادع أمام أطفالك لأهل غزة أن يطعمهم، وإذا غطيت طفلك للنوم قل له أن يدع للأطفال ممن لا يجدون لحافًا يدفئهم. قل لهم أنه من غير اللائق أن نضحك ملأ أنفسنا وأهل غزة يقتلون، فهم أهلنا، هم منا ونحن منهم. أخبر أطفالك أنه من غير اللائق نشر صور الأطعمة والرحلات وغير ذلك من الرفاهية، فلا يُشفى حزن فيك من جرح أصاب أخاك.