أتسائل كأخصائية نطق وسمع وأم؛ ما هي أول كلمة ينطقها طفل غزي؟ هل سيقول شهيد؟ حرب؟ دمار أم ماذا؟ تعلمنا وعلمنا أن البيئة تساهم بشكلً فعال في زيادة مخزون الطفل اللغوي بالتالي تحسن من لغته التعبيرية والاستيعابية، لكن الطفل الغزي ما الذي يملأ مخزونه اللغوي؟
أقف أثناء عملي مع الأطفال لأنظر في الأفق البعيد وأقول في سري: " نعم أنا أبني مخزونك اللغوي يا صغيري أساعدك على التعبير بالشكل الصحيح، لكن هل المخزون اللغوي عند أطفال غزة توقف ولم يعد يستوعب أي كلام من هول الصدمة ومن هول ما رأى أم أنه يشكل قاموسًا جديدًا في لغة الحرب؟
لا أخفيكم أني أسلط شعاع تفكيري بعيدًا حتى أصل إلى أم الطفل الغزي، فأنظر لها كيف ولدت طفلها دون تخدير والولادة كانت قيصرية، ثم ينقطع هذا الشعاع بدمعة سقطت مني وأنا أتذكر ألم الولادة القيصرية الذي شعرت به مع التخدير، ألم كبير لا يطاق لا زلت حتى يومي هذا أعاني من بقاياه. إذاً كيف لأم هذا الطفل الغزي المولود بعملية قيصرية دون تخدير أن تتحمل كل هذا الألم ومع ذلك تحاول بناء مخزون طفلها اللغوي بالصبر والأمل ليس إلا!
وتجدني عندما أشعر بنفاذ الصبر من أطفالي ومشاكساتهم ومتطلباتهم أضجر وأكاد أبكي، لكني أعاود النظر فأجد أنهم بخير تحت بيت يأويهم، وعائلة تحميهم وطعام وشراب يشبع أمعاءهم فأخجل من نفسي الملول، عندما أنظر إلى تلك الأم أو ذلك الأب يقفز في ساحات الموت محاولاً إطعام طفله الجائع كسرة خبز تم إعدادها من علف الحيوانات. وتسقط دمعتي هنا عندما أتذكر الأم الثكلى التي فقدت أطفالها بعد عناء طويل لاحتضان أنامل طفلٍ صغير بين يديها!
أتخيل نفسي أمام طفلٍ يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة محاولاً إخباري بما حصل معه فيقول لي"اشتعلت الحرب في بلادي و قلبي الصغير كان خائفًا، حاولت أمي أن تطمئني كل يوم وتحاول مساعدتي حتى أنام، لكني لم أستطع النوم بسبب صوت الصواريخ والقصف المحيط بنا.
في ليلة كانت دامية لكني لم أستطع أن أفتح عينيّ من شدة التعب، والألم والجوع ونمت في حضن أمي، أمي الغالية وضعتني على فراشٍ قربها حتى أنام مرتاحًا، في هذه الليلة التي نمت بها من شدة التعب و الإرهاق استيقظت وفوقي كومة رماد وركام، كأن الله ألهمني أن أنام هذه الليلة حتى لا أشاهد المجزرة التي حدثت قربي، وجدت نفسي في المستشفى جسدي يرتعش من شدة الخوف، جسمي ثقيلٌ لكثرة ما حمل من دموع كأني غيمة متنقلة تحاول أن تمطر، حتى وجدت الطبيب المسعف كالجبل يحاول أن يداوي جروحي التي لم أشعر بها من شدة الصدمة.
كل المواقف اليومية والأعمال الحياتية تجعلك تفكر مرتين بالرخاء الذي تعيشه أنت وأطفالك مقارنة مع ما يعيشه أطفال وأهل غزة.
احتضني و شعرت بالبكاء سألني "شو اللي صار" أخبرتهم " كنت نايم" و كل حرف يخرج من شفتاي يرتجف. "كنت نايم" تماماً مثلما ينام العالم الظالم في الوقت الحالي.ثم نكمل حياتنا في بيتنا أو حتى في غرفة العلاج بالشكل الطبيعي لكن كيف سيكمل هذا الطفل حياته طبيعيًا؟ هل ستعود روح ومرح الطفولة إلى مسكنهم؟
وتمضي أيامنا وتشرق شمس كل صباح، أحتضن معها أطفالي وكلي فرح أتبادل معهم أحاديث وأهازيج الصباح ويصل بنا المرفأ إلى أذكار الصباح أرددها مع صغاري، وسرعان ما تجدني أتذكر موقف الطفل الغزي في ذكر الله وسط الشدائد فأسرح في خيالي مع الطفل الذي يقول لأخيه " عمر سامعني … احكي بسم بالله"
وخلف هذه الجملة أتخيل ذلك الأخ يلعب كرة القدم مع أخيه عمر فيخرجان للعب في الحي، يلعبان سويًا بكل حب وعندما ينادي المؤذن للصلاة يصلي الأخ وعمر في المسجد القريب ثم يعودان إلى البيت وتكون الأم الغزية القوية والحنونة، قد أعدت طعام الغداء، وهكذا يمضي يومهم دون فراق. حتى أتت الحرب المؤلمة الصادمة، و نالوا ما نالوا من القصف الذي أصابهم جميعًا لكن الأخ عمر تضرر كثيرًا، وحاولوا مساعدته وسط ألمه بتشجيعه على ذكر الله "عمر احكي بسم الله" "عمر سامعنييي، احكي لا إله إلا الله" ويجاهد نفسه رغم صغر سنه أن يستذكر الله ونفسه مقطوع متحشرج.
في هذا العالم الموحش جانب يتألم وجانب آخر يمارس حياته بكل ما هو طبيعي وفوق الطبيعي، ليت الحرب تنتهي ليت تلك الأرواح البريئة تطمئن. وها نحن ذا في كل موقف حياتي نتذكر أن هناك ألم كبير يسكن أهلنا في غزة ويزداد هذا الألم يوماً بعد يوم. وكل المواقف اليومية والأعمال الحياتية تجعلك تفكر مرتين بالرخاء الذي تعيشه أنت وأطفالك مقارنة مع ما يعيشه أطفال وأهل غزة.
في كل موقف في هذه الحياة التي نعيشها نتذكر أن هناك ألم كبير يسكن أهلنا في غزة ويزداد هذا الألم يومًا بعد يوم. وكل المواقف اليومية والأعمال الحياتية تجعلك تفكر مرتين بالرخاء الذي تعيشه أنت وأطفالك مقارنة مع ما يعيشه أطفال وأهل غزة.