قرأت قبل قليل منشورًا يتعجب صاحبه من ازدياد الوطنية لدى بعض الأشخاص بعد خروجهم من غزة، بينما لم يكونوا كذلك وهم في وسط المحرقة ... أجل معه حق، أقول هذا من وحي التجربة الشخصية لي. بعد أن قضيت خمسة أشهر من عمر الحرب على غزة وخرجتُ إلى مصر، وقد كنت وافقت زوجي وأبي وأخوتي على الخروج فقط لأحتفظ بما تبقى من عقلي.
كنت أرى أنني لم أعد أنا فعليًا في الحرب، الحرب اختبار فظيع لكل القيم والمبادئ، لا ألوم أي أحد عاش هذه التجربة على أي تصرف.كنتُ أسير في الشوارع كالهائمة، وقد فقدت عشرين كيلو من وزني، ولم يعد يعنيني ماذا ألبس ولا كيف أمشي، ولا ماذا أقول، كنت أردد دوما" اللهم إني أسالك الثبات"
وكنت مثل الكثيرين أشتم وألعن كل ما على الأرض، أمام دمعة طفل صغير أو أشلاء آخر تلتقطها أمه من قارعة الطريق، أو أي لحظة فقد أو نزوج أو جوع أو موت.
ولعلك تستغرب لو قلت لك أنني لم أكن أملك القدرة على البكاء حقيقة، بل كنت أضحك أنا وأبنائي أحيانا بشكل هستيري ساخرين من كل أشكال الأسى، والأهم أنني لم أمارس عملي ككاتبة، كنت أكتب بطريقة مشرذمة نصوص غير متناسقة مع بعضها، تشبه ذلك الضباب الذي يغطي عقلي!
لكن حينما خرجت بدأت أعود للحياة الأدمية الطبيعية، بدلت ملابسي، واغتسلت كالبشر الطبيعيين؛ وتناولت طعامًا طبيعيًا كالبشر وبدأت أتابع نشرات الأخبار والتحليلات السياسية بتفصيل أكبر كالبشر.. . وأحب وطني كبقية البشر.
ثم فعلت شيئا كان مؤجلا " استطعتُ الانهيار أخيرا "، لا أكذب عليك لو قلت أنني بكيت لشهر كامل ولازلت ، بكيت في الشوارع، بكيت عند النوم، وعند الصحو، وعند تناول طعامي، وعندما رأيت أبنائي يختارون ملابس جديدة، وعندما ذهبت إلى الصيدلية لأشتري أدوية لم تكن متوفرة في غزة، بكيت بصوت عال، وصرخت أيضًا، ولم أفعلها يومًا، أنا المعروفة بأنني قوية صلدة، حتى يوم ماتت أمي لم أبكِ بهذا القدر.
ثم بدأت أستعيد تدريجيا قدرتي على التركيز والكتابة وحتى الكلام مع البشر بطريقة عادية، بل وحينما كتبت النص الأول الذي أجلته منذ خمسة أشهر واصفة الطريقة التي خرجنا فيها من غزة في الثالث عشر من أكتوبر، انهرت، وخارت قواي، وتمددت في الفراش كالعليلة، مختنقة ببكاء طويل وكأن غصة كانت تكتم أنفاسي واستطعت التنفس فجأة.
لقد عدتُ إلى الحياة الطبيعية، كنت أقول غزة تستحق منا البكاء لآخر العمر، وأنا صادقة، ولكني لم أكن أقوى، لأنني لم أكن أملك ترف البكاء، كنت أركض، وراء الحياة، هاربة من الموت، وهل يفكر من هو في قلب المعركة في شيء آخر سوى الهروب من الموت؟!
أحب الوطن، وسأفنى يومًا داخله أو خارجه، وربما لست جديرة به، ولا جديرة باللذين يحملون أرواحهم على أكفهم منذ تسعة أشهر.
لذلك يا عزيزي، نحن نملك الوطن ونحب الوطن، ونتغنى بالوطن، كلنا، لكننا منذ السابع من أكتوبر لم نكن نعيش حياة عادية لنفعل، كانت المأساة أكبر من كل شيء، وحينما عدنا إلى طبيعتنا فعلنا. أقلب الصور القديمة يوميا؛ أصدقائي، أحبتي، بيتي، ملابسي، رفاق أبنائي، وكأني أراها للمرة الأولى ! وأسأل نفسي عشرات الأسئلة الكفيلة بأن تصيبني بالجنون:" متى حدث كل ذلك؟! أين كنا وأين صرنا؟! " ومن، وماذا، ومتى ... كل شيء كفيل بأن يفقدك عقلك !
أحب الوطن، وسأفنى يومًا داخله أو خارجه، وربما لست جديرة به، ولا جديرة باللذين يحملون أرواحهم على أكفهم منذ تسعة أشهر، وربما كانوا هم من سيدفع الثمن الحقيقي من دموعهم في النهاية قبل دمائهم. لكنه الوطن، وطني، مدمر، حزين، مخلص، خائن، مات، عاش، هو وطني، وسيبقى، وسيتحرر يوما، على يد أبطال لم يبكوا ولم يلعنوا، ولم يهربوا مثلي من منتصف المعركة.