بنفسج

عائلة الشهيد مصطفى باكير: أحلام تحطمت وبيت هُدِم

السبت 29 يونيو

فاق عدد الشهداء حتى اليوم أكثر من 36 ألف شهيدًا، والأعدد تقريبية للشهيدات الأمهات، والشهداء الأطفال، والشهداء الآباء. تفصيل كل عدد يؤول إلى قصص إنسانية لها سماتها العميقة لكل اسم، الاسم الكامل، والحياة والدراسة والكبر والحلم، لكل اسم  شبكة علاقاته الاجتماعية؛ زوجة وأبناء وأقارب وجيران وأصدقاء وعمل، لا تنتهي هذا الشبكات عند توقف حياة أحدهم.

بل يبقى تأثيرها في الأعماق، ويظل مستمرًا مدى الحياة. في هذا الحوار نسبر أغوار مسار حياة زوجة، مات عنها زوجها، استشهد في الحرب، كان له في شبكة الحياة الاجتماعية زوجة وأطفال وأهل وأصدقاء وعمل ناجح يتميز فيه، لم يترك الزوج فراغًا في حياة زوجته، المتأثر الأول بفقدانه، بل عبئًا ثقيلًا في قلبها ومسؤوليتها اتجاه الحياة وصعابها، فالحرب لم تنته، لا يزال عليها رعاية أطفالها ومن حولها في عسر أيام الحرب.

شيماء & مصطفى: بيت من مودة وسكن 

"تزوجت من مصطفى كمال وأنا بعمر 18 سنة، وكان سندًا لى وعونًا بعد الله في النجاح والتألق خلال سنوات دراستي الجامعية، كان رفيق دربي يدعمنى بكل خطوة أخطوها.
 
كان صاحب حكمة ونباهة، كان حريصًا أن أكون ناجحة في حياتي لأبني لي مستقبلًا، وكان يقول أنت تستحقين ذلك. أنجبت منه أربعة أطفال أكبرهم يامن وهو شبيه أبيه، ويوسف وركان وابنتي الوحيدة جود" .

شيماء لم تفقد زوجها الصحفي مصطفى باكير في أوضاع طبيعية تجعلها تبكيه لأنه رحل فحسب، بل تتقلب هذه الأحزان في مواضع أخرى كثيرة، يزدحم به الفؤاد فتجده مكشوفًا، وتثقل عليها فتصير أضلاعها مكسورة، وتختبرها الأيام فتجعل داخلها فارغًا، رحل مصطفى في أقسى الأيام وأصعبها وقد كان الضلع الثابت والقلب التوأم، ورفيق الحياة المخلص، تواجه به شيماء أيامها ولا تخشى شيئًا بوجوده من بعد الله.

في بداية حوارنا طلبت إليها أن تعرف بنفسها، فالاسم الذي يُنقش على جلود الأجساد ذا قيمة تفوق حروفه ومعانيه، إذ يجب أن نعرفها باسمها وذاتها وتفكيرها وقلبها وعقلها حتى نعي جرحها علنا نقترب إليه، تجيب: "أنا شيماء محمود من غزة مواليد 26 آذار/ مارس 1994، يقولون عني بأنني فتاة مثابرة مجتهدة؛ إذ حصلت على معدل ٩٧.٥ في مرحلة التوجيهي، ودرست تخصص رياضيات في جامعة الأقصى، وتخرجت بالامتياز بمعدل ٩٣.٤، وعملت معلمة رياضيات منذ تخرجي".

وعن رحلتها وبدابتها مع زوجها أبا يامن تقول شيماء: "تزوجت من مصطفى كمال وأنا بعمر 18 سنة، وكان سندًا لى وعونًا بعد الله في النجاح والتألق خلال سنوات دراستي الجامعية، كان رفيق دربي يدعمنى بكل خطوة أخطوها. كان صاحب حكمة ونباهة، كان حريصًا أن أكون ناجحة في حياتي لأبني لي مستقبلًا، وكان يقول أنت تستحقين ذلك. أنجبت منه أربعة أطفال أكبرهم يامن وهو شبيه أبيه، ويوسف وركان وابنتي الوحيدة جود" .

الشهيد مصطفى باكير مع أبنائه.jpg
صورة تجمع الشهيد الصحفي مصطفى باكير مع أبنائه 

يقولون قيس وليلى وعنتر وعبلة وروميو وجولييت في قصص الحب والحرب التي لم تمت وإن مات أصحابها، خطت تفاصيل حكاياتها عقول أجيال متلاحقة، وكم من القصص التي خلفتها الحرب، فرقت بين حبيبين تعاهدا ألا يفرقهما الزمان. قبل الحرب كانت لشيماء حياة سعيدة ورفيق دربها وحبيبها مصطفى، تقول شيماء: "قبل هذه الحرب كنت أنا ومصطفى دائمًا يدانا معًا نسعى دائمًا لتحقيق أحلامنا، فكانت أبسطها أن نسكن في بيت جميل، فعزمنا أن نقف معًا ونبني هذا البيت.

وبالفعل كان مصطفى حريصًا كل الحرص أن ننجز هذا البيت قبل إجازة الصيف لنستمتع بها دون الانشغال بالعمال أو البناء. اقترضنا قرضًا لإتمام بيتنا، ولاحقتنا الأقساط في كل لحظة، لكن كنا سعيدين فنحن نبني بيت الزوجية السعيد والجميل؛ إذ ستزول هذه الديون ويصبح لنا مكان آمن وجميل وهادئ ".

العدون الإسرائيلي قتل الزوج والسند 

 استيقظنا صباح الجمعة مستعدين للرجوع إلى بيتنا، لكنني تلقيت اتصالًا من شخص يريد رقم إخوة زوجي دون أن أعلم السبب، وبعد نصف ساعة خرجت أنا وأولادي نستعد للذهاب إلى بيتنا لأننا كننا متيقنين بأن زوجى ينتظرنا، فإذ بأخي يهمس في أذني بأن الهدنة اختُرقت والوضع مخيف في شرق رفح .

قلت له لا، كيف يحدث هذا؟ الجميع يتحدث عن هدنة. كان أخي قد عرف بخبر استشهاد زوجي البارحة في قصف غادر استشهدفه هو أصدقاءه ولكن لا يعرف كيف سيخبرني أنا وأطفالي ...رجعت إلى منزل أخي الذي كنا قد نزحنا إليه، وأنا أعاتب زوجته لماذا أرجعني ..وإذا بأخي خلفي يخبرنا بخبر استشهاد زوجي".

لكن، ماذا عن الحرب يا شيماء، ماذا فعلت بكم وآمانكم وبيتكم الجميل، ماذا فعلت بمصطفى وبك؟ تقول شيماء والأسى يعتصر قلبها مؤجلة حزنًا يتسرب إلى خلايا جسدها: : "استيقضنا صباح السابع من أكتوبر، فبيتنا شرق رفح كانت أصوات القصف والانفجارات تلاحقنا؛ فقررنا أنا وزوجي الخروج بأطفالنا الأربعة إلى بيت أهلي لنشعر بالأمان أكثر؛ فمنطقتنا حدودية ولا أمان فيها، عدا عن الشعور بالخوف الدائم على الأطفال .

فبدأت رحلة النزوح من أول يوم بالحرب، ثم ساءت الأوضاع في مكان سكن أهلي، فقررنا النزوح مرة ثانية إلى بيت أخي الذي كان يفتقر أبسط مقومات الحياة؛ فلا ماء متوفر ولا كهرباء ولا حتى البيت آمن؛ فهو مقام بالإسبست، يمكن أن يسقط في أي لحظة وينهار على رؤسنا، لكن كنا نقول الموت مع الجماعة رحمة".

مذئذٍ أصبحت شيماء تعتمد على نفسها كثيرًا، إذ انفصلت عن زوجها في تلك الفترة، وقلّت الاتصالات إلى حد الانقطاع؛ فلا يوجد إنترلانت ولا اتصالات. تقول شيماء عن تلك الفترة: "مرت بنا أيام عصيبة وانقطعت الاتصالات وأصبحنا أنا وأطفالي متشوقين لرؤية زوجي أو حتى سماع صوته.

من رسائل شيماء لزوجها الشهيد الصحفي مصطفى باكير.jpg
من رسائل شيماء لزوجها الشهيد الصحفي الراحل مصطفى باكير

في يوم من أيام الحرب، وكان يوم جمعة، أعلنت فيه الهدنة في تاريخ ٢٠٢٣/١١/٢٤. نمت وأطفالي تسبقنا أحلامنا برؤية زوجي واحتضانه لأطفلنا. استيقظنا صباح الجمعة مستعدين للرجوع إلى بيتنا، لكنني تلقيت اتصالًا من شخص يريد رقم إخوة زوجي دون أن أعلم السبب، وبعد نصف ساعة خرجت أنا وأولادي نستعد للذهاب إلى بيتنا لأننا كننا متيقنين بأن زوجى ينتظرنا، فإذ بأخي يهمس في أذني بأن الهدنة اختُرقت والوضع مخيف في شرق رفح .

قلت له لا، كيف يحدث هذا؟ الجميع يتحدث عن هدنة. كان أخى قد عرف بخبر استشهاد زوجي البارحة في قصف غادر استشهدفه هو أصدقاءه ولكن لا يعرف كيف سيخبرني أنا وأطفالي ...رجعت إلى منزل أخي الذي كنا قد نزحنا إليه، وأنا أعاتب زوجته لماذا أرجعني ..وإذا بأخي خلفي يخبرنا بخبر استشهاد زوجي".

هدم الاحتلال الإسرائيلي المنزل وحرق الذكريات 

أبناء الشهيد الصحفي مططفى باكير.jpg
أبناء الشهيد الصحفي مصطفى باكير بعد النزوح من بيتهم واستشهاد والدهم 

سألتها: ماذا عن روحك يا شيماء، قلبك الممتلئ حبًا وشوقًا، فؤادك الذي ما انقطع التفكير في مصطفى، وكيف سيكون اللقاء به...شيماء: "عندما علمت خبر استشهاده، نزل الخبر على قلبي وقلب أطفالي كالجبل الذي هدني. مصطفى كان رفيق دربنا، حبيب القلب والروح السند الحقيقي. داهمتني مشاعر مختلفة، رحل مصطفى، فقدته إلى حين اللقاء الأبدي، ولكني أريد جسده لأودعه وأستشفي به. دعيت الله أن لا يكون أشلاءً، أريد أن أودع جسده، أريد رؤية وجهه، إذ لم نر وجهه منذ خمسين يومًا، كان حريصا أن يؤدي عمله ولم يتوان عن ذلك. ذهبنا إلى المشفى فلم نر سوى كفن أبيض .حسبنا الله ونعم وكيل، قلتها بملئ الفيه".

رأينا مشاهد منذ اليوم الأول للحرب؛ التدمير والقصف والتهجير والإبادة، لا طعام ولا شراب ولا وقود ولا خدمات صحية، فكيف لامرأة شابة مثل شيماء أن تتجاوز كل هذا وحيدة دون زوجها. تقول شيماء: "كانت فترة الهدنة وجعًا حقيقيًا، حزنًا يشق على النفس، شعورًا لا يمكن وصفه، ولكنه كان مؤجلًا، فأطفالي أمانة في عنقي من بعد مصطفى، أصبحت الأم والأب ولا أستطيع الغرق بحزني فأفقد نفسي وإياهم ..

حاولت أنا أكون قوية لأجل خاطر أطفالي ليتجاوزوا خبر استشهاد والدهم. مرت بنا الأيام واشتاق أولادي للعودة إلى بيتنا إلى ذكرياتنا إلى ملاذنا، فقد مرت بنا 190 يومًا نازحين من بيتنا. اشتقنا لكل زوايا البيت، فقررنا الرجوع إليه في منطقة غير آمنه لأن أطفالي كان يفتقدون ألعابهم وغرفهم وأسرتهم وأغراضهم الخاصة، لكل شيء في بيتنا.

في اليوم 202، تلقينا اتصالًا هاتفيًا من الاحتلال بإخلاء منطقة حي السلام كلها؛ فخرجنا من منزلنا فقط بأرواحنا أنا وأطفالي، لم نُخرِج من بيتنا شيئًا. خرجنا وقلوبنا محروقة على فراقه. خرجنا وكلنا أمل بالعودة إلى ملاذنا إلى ذكرياتنا إلى مقتنياتنا الجميلة، خرجنا مكلومين إلى تل السلطان، نازحين.

استيقظت فجر 9 أيار/ مايو الجاري، على خبر استهداف الاحتلال منزلنا، شعرت حينها بأن جبلًا رُمي على صدري! بماذا سأخبر أطفالي الذين خرجوا بدون شيء، ومازالوا يعانون من الصدمة الأولى. أخبرت أطفالي، وكانوا أقوياء، قال يوسف: يا ماما حنبني أحسن منه، وسألت جود: يا ماما عروستي شنتة مدرستي السرير الجديد إلي جبتيه قبل حرب لسا ما نمت عليه يا ماما؟ وتذكر يوسف ألعابه وعجلته كذلك، ويامن الذي طالما تذكر أغراض والده وذكرياته في البيت".تقطع شيماء أيام الحرب بصعوبة بالغة، فقد تُركوا بلا شيء؛ لا دخل، ولا موارد، ولا مساندة، ولا بيت، تحاول وأطفالها النجاة من الموت!