"دعني أخبرك يا صديقي، بأنني أصبحت لا أعرف طعم النوم، جثامين الأطفال والأشلاء وصور الدماء تكاد لا تفارق عيناي، صرخات الأمهات وبكاء الرجال وقهرهم لا تغيب عن مسامعي". رحمك الله يا إسماعيل وتقبل رسالتك وبذلك وإخلاصك… كانت هذه الرسالة آخر ما كتبه إسماعيل الغول صوت الشمال.
اعتدنا على تغطيات إسماعيل الغول، وهي تتميز بحسه وقلبه وروحه، إذ كان شديد التأثر بكل ما يحدث حوله، فيجوع مع الناس ويظهر كذلك، بالكاد يستطيع رفع جسده الخائر أمام الكاميرا، وباكيًا حزين العينين في كل تغطية شهدؤها أطفال. وكثيرا ما كان يستوقف إسماعيل صغار السن ويسألهم عن أحولهم: ما اسمك، لم أنت حافي القدمين أيها الصغير، هل أنت جائع، أين والداك، هل فقدت أمك، من أين نزحت، لماذا تبكي، مم تشتكي، هل يؤلمك بطنك.
إسماعيل الغول: ابن البلد
إسماعيل ابن البلد، ابن غزة، ابن الشمال، لم ينفصل يومًا عن كونه ابن الأرض، فهو ليس صحفيا يؤدي عمله فحسب وإنما صاحب رسالة يحرص على إيصالها إلى كل العالم من خلال تقاريره وتغطياته وصفحاته على السوشال ميديا. لطالما كان يكتب إسماعيل منشورات يشاركها مئات الآلاف على منصتي إكس وانستاغرام. وكان آخر ما نشره صورة إسماعيل هنية مرفوعة من فوق أنقاض منزله وغرد "بأجواء حزينة يودع المخيم الرجل الوطني الكبير، من على أنقاض منزل رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في مخيم الشاطيء غرب مدينة غزة".
ومن رحم معاناة الخيام وأهلها في الحر الشديد، غرد: "اللهم هوِّن هذا الحر الشديد على أهلنا النازحين في الخيام، اللهم اصرف عنهم الأذى وأنزل عليهم نسائم بردك وسلامك". وقبل أيام غرد يقول وقد نشر فيديو: "طفلة ٥ شهور ولدت في الحرب ووسط المجاعة واليوم تقتل في الحرب الاسرائيلية المتواصلة". ومرة يمشي مترنحا أمام كاميرا هاتفه وكأنه يتحدث إلى نفسه فيقول: أينما ذهبت في الشجاعية يؤلمك قلبك… جوع وعطش وحر…
خلال الجولة وجدنا أن حتى التكيات غير متوفرة وبالكاد توجد في بعض مراكز الإيواء، وذلك يعود لأسباب كثيرة من بينها أن المواد الأساسية لصناعة التكيات مفقودة من الأسواق بسبب الحصار الاسرائيلي المشدد على شمال قطاع غزة، خاصة أن الاحتلال يمنع دخول شاحنات القطاع الخاص لما يزيد عن 70 يوما.
قد يتحدث البعض عن دخول المساعدات، الإجابة نعم هي غير كافية، لكن العائلات في الشمال منذ شهور وهي تعتمد على المعلبات، وبالكاد تعطي هذه المعلبات قيمة غذائية للجسم، فالجسم بحاجة إلى بروتينات وألياف والكثير من الفيتامينات لا تتوفر في المعلبات، لا أريد التعقيب على حجم الضرر للمعدة من تلبك المعلبات وتلوث، لذلك نحن بحاجة لدخول شاحنات القطاع الخاص المحملة بالطعام الصحي.
إسماعيل الغول: صوت الشمال الجائع
إسماعيل لم ينقل المجاعة في الشمال فحسب بل عاشها، جاع وخوت أمعاؤه ومضت أيام دوت أن يقتات ولو فتات خبز، يقول: نحن لسنا في مجاعة، بل في أسوأ من ذلك، موت بشكل بطيء! منذ يومين تجولت بين مراكز الإيواء نتفقد أوجاع الناس، ما هي طبيعة الحياة على الرغم أننا لا نعيش بعيدا عن ظروفهم، فوجدنا أن العائلات تعاني وتموت بشكل بطيء.
الخطر الأكبر في المقام الأول على الأطفال بعد تفشي أمراض سوء التغذية بينهم، والكثير من الأمراض حتى باتت أجسادهم هشة وضعيفة ولا يتوفر ما يساعدها على مقاومة الأمراض، أما عن السيدات سواء المرضعات اللاتي لا يستطعن إرضاع أطفالهن الرضع أو حتى الحوامل اللاتي بات الحمل لديهم على حافة الخطر بسبب التخوف من الإجهاض مع استمرار سوء التغذية.
بالمختصر نحن نموت بشكل بطيء أسوأ من الموت جوعا، اجسادنا هزيلة لا نستطيع التفكير اذهاننا مشتته. وعن الصراعات والتعب وسط التغطية يقول: "تخيل أنك تقف عبر الشاشة أمام العالم بوجه متعب وملامح مرهقة، وعيون ذابلة، وتظهر في ملامحك جميع المآسي.
فقط لأننا نحن نواجه أبشع المجازر، نصبر أمام كل الصعوبات نستمر وسط كل التحديات، لم تذبل العيون فقط من قلة الغذاء وعدم توفر الطعام الصحي أو حتى مياه الشرب، وفي ظل درجات الحرارة المرتفعة التي تنهش فروة الرأس، عوضا عن قلة النوم. ما تلبث أن تغمض جفنيك حتى تسمع دوي الانفجارات، أو الذاكرة التي لا تغفو بين مشهد وآخر، وخيال ذهني كيف نسمع الصوت للعالم فأبناء شعبنا يموتون بشتى الأساليب وسط الضغط الكبير سواء النفسي أو حتى المعيشي .. كل ذلك يقتحم داخلي ويظهر جزء بسيط منه على ملامحي..".
ولطالما كنا نؤمن على دعاء إسماعيل صاخب القلب الطيب حين يدعو لأهله وجيرانه وأصدقائه: اللهم في يوم الجمعة أنزل رحماتك ولطفك على أهلنا وأحبابنا في غزة وفلسطين، اللهم ارفع الكرب والبلاء عنا، اللهم آمن روعاتنا واستر عوراتنا، اللهم كن لنا عونا ونصيرا.. اللهم آمين… آمين
من هو الصحفي إسماعيل الغول؟
إسماعيل ماهر خميس الغول، ولد في 14 يناير 1997، صحفي فلسطيني ومراسل الحزيرة في غزة منطقة الشمال تحديدا. وهو من أبرز الصحفيين الذين غطّوا العدوان الصهيوني على قطاع غزة. استهدفته إسرائيل عشيّة الـ 31 من تموز/يوليو 2024 رفقة زميله المصوّر رامي الريفي بقصفٍ إسرائيلي استهدفهما في مدينة غزة وذلك بُعيد تغطيتهما لاغتيال إسماعيل هنية في إيران من منزل هنية المدمَّر في القطاع.
كانَ إسماعيل قد ظهر في بثّ مباشرٍ على شاشة الجزيرة سويعات قليلة فقط قبل اغتياله من إسرائيل، ورغم استجابة الصحفي للتهديد الإسرائيلي بقصف المنطقة التي كان يتواجدُ بها فضلًا عن ارتداءه لسترة الصحافة فقد تعمَّدت طائرة مسيرة إسرائيلة مطاردة السيّارة التي كان يستقلّها رفقة صديقه المصوّر وأطلقت عليهما صاروخًا موجّهًا ما تسبب في مقتلِ الاثنين على الفور وفي عينِ المكان.
حصل إسماعيل على درجة البكالوريوس في الصحافة من الجامعة الإسلاميّة، وبدأ عمله في مجال الصحافة المكتوبة مراسلًا لصحيفتي الرسالة وفلسطين المحليتين. اتجه في وقتٍ لاحقٍ إلى العمل التلفزيوني من خلال عمله مع العديد من شركات الإنتاج الإعلامية في غزة، ثم مراسلا لقناة الجزيرة خلال حرب الطوفان.
اعتُقل في صباح يوم الاثنين 18 آذار/مارس 2024 من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي هو وعشرات آخرين إثر اقتحام القوات المحتلَّة لمجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة. تعرّض إسماعيل لاعتداءٍ من الجنود الإسرائيليين لحظة الاعتقال ثمّ اقتيدَ إلى مكان مجهول، قبل أن تُفرجَ عنه القوات الإسرائيلية في اليوم التالي بعد 12 ساعة من الاستجواب والتحقيق.
واصل إسماعيل التغطية وفضّل البقاء في قلبِ غزّة رغم تحديات الجوع والمرض بل إنه فقد والده خلال الحرب بسببِ مرض السرطان الذي لم يجد مكانًا لاستكمال العلاج فيه بسبب التدمير الإسرائيلي لمستشفيات القطاع، كما فقد في وقتٍ سابقٍ شقيقه في قصفٍ إسرائيلي على الشقة التي كان يتواجدُ بها.
لإسماعيل طفلة صغيرة عرفناها من منشوراته التي كان يعبر فيها عن حجم اشتياقه وأنها تكبر بعيدة عنه ظلّ ينشر عنها منشورات بين الفينة والأخرى على حساباته الرسميّة في مواقع التواصل الاجتماعي وكيف أنها تعيشُ سنينها الأولى بعيدًا عنه منذ بداية الحرب فهي ووالدتها في المحافظة الوسطى بينما ظلَّ هو في محافظة الشمال مرتبطًا بعمله ومستمرًا في تغطية الأحداث بكل شجاعة حتى ارتقى شهيدًا.. وداعًا يا إسماعيل، ألا إنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة.