بنفسج

مضى العُمــر بنا... احتلالًا باحتلال

الجمعة 09 اغسطس

مضى بنا العمر احتلالًا في احتلال. أذكرني طفلًا يهرب أمام جنودٍ مدججين في الحارة الضيقة ويختبئ في بيت الجيران فتمنحه الجارة الطيبة ملابسَ بألوانٍ أخرى كي يضلل الجيش إذا ما اقتحم البيت!

وأذكرني في يومٍ هجم فيه الجنود على مدرستنا بالقنابل المسيلة للدموع.. فلم أستيقظ إلا على وجه أبي وقد مضى بي إلى تلة المنطار كأنه أراد الهروب بي إلى مرتع طفولته حيث لا هواء إلا هناك!.. تنفست حينذاك تاريخ أبي وطفولته فانتشيت لكن بقي في أنفي وحلقي حريق رائحة الغاز ساعات.كان هذا في الابتدائية في أواخر سنوات الانتفاضة الأولى.

كان لجيبات الجيش سلك اتصالاتٍ طويلٌ يتأرجح فوق سطحه.. نراه من ساحة المدرسة فيثور أطفال الحجارة ويبدأ رجم الشيطان وينتهي الأمر باقتحام الجيش للمدرسة وجدلٍ عنيفٍ مع ناظر المدرسة ثم عقوبةٍ لبعض الطلبة وتوبيخٍ تمثيليٍّ لبعض المدرسين أمام الجيش!

وكنت في فرق الكشافة الأولى بعد اتفاقية السلام.. كانت عملية رفع العلم على السارية وانطلاق النشيد الوطني الفلسطيني في فضاء ساحة المدرسة أمرًا ينفخ الصدور فخرًا حتى تكاد رؤوسنا إذ ذاك تزاحم الغيم في الأعالي.نرفع أيادينا بثلاثة أصابع تحيةً للعلَم ونتنفس الكلمات والألحان ونتصرف مثل جنودٍ يتأهبون لمعركة.

ولم يدُم هذا طويلًا.. اشتعلت الانتفاضة الثانية ونحن في الثانوية العامة.. أمر شبيه بما حدث هذا العام وإن كان لا يقارَن.. كنا ندرس ونظن في كل لحظة أننا سنفقد عامنا الدراسي وسط دوامة الحجارة والإسعافات والاجتياحات وصراع الميدان..

وقضينا أعوامنا بعد ذلك نرمم بعد كل عامٍ ما يهدمه العام الذي قبله لعل غدنا يكون بلا احتلال.. وحتى لا يجري أطفالنا أمام الجيش ويختبئوا في بيت الجيران ويغيروا ملابسهم كي يضللوا الجيش!

إنّ قصتنا مع الاحتلال ملح تاريخنا.. وإنّ سخريتنا من الواقع وقدرتنا على مواصلة الحياة هي معضلة المؤرخين الكبرى وسؤال علم النفس الإعجازي الذي لا إجابة له!

شابت الرؤوس وانقضى العمر ونحن نتقافز من احتلالٍ إلى احتلالٍ ومن مرحلة إلى مرحلة.. غير أنّ حياتنا كانت مثل حقلٍ لفلاحٍ طيب.. لا يملك ثمن السقاية فيترك الأرض لفيض السماء.. ينبت هنا وردٌ وهناك شوك.. وهنا فسيلة نخلٍ وهناك ذرية زيتون.. ونحن أبناء الحقل الفلسطيني الطيبون الفقراء.. حفاةً نسير في حقل أبينا فينثر في قلوبنا الوردُ عطرَه تارةً ويلسع أقدامَنا الشوك تارة.. وبين هذا وذاك نحن أكثر سكان الأرض رضَا ببساطتنا وحبًّا لذاكرة الشوك في أقدامنا ورائحة الورد في قلوبنا..

إنّ قصتنا مع الاحتلال ملح تاريخنا.. وإنّ سخريتنا من الواقع وقدرتنا على مواصلة الحياة هي معضلة المؤرخين الكبرى وسؤال علم النفس الإعجازي الذي لا إجابة له!

وفرِحًا بهذه الذكريات أو حزينًا.. لا فرق!.. سأجلس أمام أحفادي ذات يومٍ وأروي لهم قصتي المتواضعة مع الاحتلال.. كما جلس جدي مراتٍ ومراتٍ بجوار الموقد في الشتاء يروي لنا كيف أطلقت عليه الدبابة خلال خدمته العسكرية تسعَ رصاصاتٍ وتقدمَت نحو جسده الملقى على الأرض بكامل ساديتها القذرة ظنًّا منها أنها ستهرسه. سأجلس كذلك كما جلس أبي مثل جدي يروي لأحفاده حكايات سنواته التسع في سجون الاحتلال.

لا أملك الكثير كي أقوله لأحفادي عن الاحتلال.. أتمنى لو كانت في جعبتي قصص بطولة كقصة جدي وأبي.. ربما أكثر ما أملك هو قصة هذا العام! قصةٌ بألف عامٍ من السجن وألف رصاصة في القلب.. لكن سأحتاج الكثير من الوقت كي أرتب الأحداث وأنتقي ما يمكن أن يقال من هذا العام لأطفالٍ.. أمام موقدٍ في الشتاء.. لو بقي فينا عمرٌ وقُدّرَت لهم حياة!