كان القلب متأهبًا بانقباضته الخائفة، لم تكن ليالي الحرب أبدًا آمنة، فأن تكون على أهبة الاستعداد أن تسقط عليك الحجارة الإسمنتينة وأسقف الباطون، لا يعني أنك جاهزٌ أبدًا، وجدت نفسي في ثوانٍ معدودة مدفونة تحت الركام من غير حول لي ولا قوة.لم أقوَ على الحركة ولا حتى الحديث، الجو معتم، وقلبي باردٌ كالثلج، وجسدي معبق برائحة البارود والغبار....
أنا رواء أبو العون، كنت أعمل قبل المحرقة معلمة، وهذا جيد أنني أتذكر ما الذي كنت أفعله.أعيش برفقة أخي وزوجته وأولاده في نفس العمارة، لم يكن شقيقي يومًا شقيق فحسب بل كان أبًا أيضًا. في ليلة السابع من ديسمبر، وبعد منتصف الليل بقليل، قُصف بيت الجيران، وإذ بالجدران تسقط علينا وبعض أعمدة البيت، كان في ضيافتنا في منزلنا نازحون كُثر، شقيقاتي المتزوجات جميعهن، وأقارب لنا، فجأة أستيقظتُ على الحجارة تغطي وجهي، أُسعفنا والطبيب يداوي جروحي وصلني أخبار استشهاد عائلتي واحدًا تلو الآخر.
أنا رواء أبو العون، كنت أعمل قبل المحرقة معلمة، وهذا جيد أنني أتذكر ما الذي كنت أفعله!
اُستشهد أخي بكر الذي توطدت علاقتي به كثيرًا خلال الحرب، فكان يظل جالسًا معنا أنا وشقيقاتي في شقتنا تاركًا لأخوات زوجته الحرية في شقته.صُدمت جدًا بفقدانه، سرعان ما توالت الأخبار الحبيب وليد وملك وتالية، تربطني علاقة جميلة بوليد صاحب الخمسة عشر عامًا لم نكن ابن أخ وعمة، بل صديقان نتسكع في الليالي الجميلة على دراجته الكهربائية، يأتمنني على أسراره وأحلامه وآماله الكبيرة.
أما ملك الصغيرة البالغة ثمانِ سنوات فغالبًا ما كانت ترافقني أينما ذهبت وأحب أن أناديها محمود لأنها قصت شعرها ذات مرة بشكل قصير جدًا يشبه قصة الصبيان، فكانت لا ترضى لأحد أن يناديها بمحمود إلا أنا، فكانت تحب ملاطفتي والبقاء معي ومازلتُ أفتقدها...
أما الصغرى تالية فكان اسمي أول اسم نطقته ولم نسمع باقي الأسماء منها فقد رحلت بعمر العام ونصف. تبقى لي من شقيقي صغيرتان أنا الآن الأم والأب والأخ لهما، أحدهما مريضة بالسرطان، فكانا العوض لي على فراق الأحبة أخي وزوجته وأولاده.عزاؤنا أنهم بإذن الله أحياء عند ربهم يرزقون، كثيرًا حلمنا بهم يخبرونا أنهم أحياء ولم يموتوا، وها نحن ننتظر دورنا أن نلحقهم ونلتقي في الجنة هناك حيث لا فقد ولا وجع.
لقد كانت إصابتي هينة مقابل ما نشاهده من حالات البتر والحرق، فما أعيشه الآن بسيط بالنسبة لابتلاء غيري، أعاني من إصابة الظهر ووجعه الدائم فلا أستطيع الجلوس إلا مستندة على حائط ولا أستطع المشي لمسافات طويلة أو أن أحمل شيئًا، غير الندوب التي تُركت من آثار الخيوط في يدي ورأسي وتهتك في عضلة يدي اليسرى وما زالت بعد الشظايا الصغيرة في جسمي ولم يطردها جسمي بعد.
إن أصعب ما قد يُمر به الإنسان على الإطلاق به بعد الشعور بالفقد، هو البقاء تحت الركام فما هو إلا موتٌ أصغر أو ربما أصعب من الموت الحقيقي.
ما يقهرني أكثر من ألمي الجسدي، هو وجعي النفسي حين تصرخ الصغيرة الباقية أعيدوا لي أمي وأبي، أريد أخي وليد، نادوا لي أختي وصديقتي ملك، أرجوكم ضعوا الصغيرة تالية في حضني أريد حملها للمرة الأخيرة، أرجوكم أنا أمها وأنا من كنت أراعها طوال الوقت، أريد أهلي.. ونحن وقتها لا يسعنا إلا البكاء والحسرة لفقدهم والصبر والاحتساب أنهم نالوا الجزاء الأوفى في الدنيا.
إن أصعب ما قد يُمر به الإنسان على الإطلاق به بعد الشعور بالفقد، هو البقاء تحت الركام فما هو إلا موتٌ أصغر أو ربما أصعب من الموت الحقيقي، وبالنسبة لي ولحسن الحظ أني كنت مستيقظة وقت القصف فدفن كل جسدي إلا الرأس، فما يخطر ببالك وقتها إلا ترديد الشهادتين وسؤال الله المغفرة قبل لقائه، والصراع بين الرغبة في العيش أم لقاء الله والتفكير فيمن حولك كيف هم ومن نجا منهم ومن ستفقدين.
ألف شعور وألف يختلط في ذهنك وما زلت تحاولين التقاط بعض أنفاسٍ مختلطة بالغبار والبارود، تخافين من الصراخ حتى لا ينقطع نفسك أم تصرخين ليعلموا بوجودك.. فقمة الرعب أن تسمعي من حولك يقولون كلهم موتى ولا صوت يخرج منك لتخبريهم أنك ما زلت على قيد الحياة.
الآن أنا نازحة في بيت أختي المتزوجة مع أسرتها في حي التفاح، بعد ست مرات من النزوح، أشتاق لكل شيء كنا نعيش حياة المثالية الهادئة المطمئنة ونحيا حياة الراغدين؛ فيبدأ اليوم بالتحضير صباحًا للمدرسة ثم بالذهاب إليها ونعود عصرًا للجلوس بهدوء في غرفتي مع هاتفي ومصحفي أكمل اليوم وكأس النسكافيه بجانبي وخزانتي الممتلئة بشتى أنواع التسالي والحلويات..يأتي الصغار لتسليتي ونسرد القصص ونلعب معًا ونخطط لفسح نهاية الأسبوع.
سلبت الحرب كل مستقبلنا وأحلامنا القادمة وسرقت غرفتي الهادئة وحياتي المحببة، وسرقت خزانتي التي امتلأت بكافة أنواع الأكواب اللطيفة منها والغالية، فكانت هوايتي جمعهم واقتناءهم، فمن بين مئة كوب تقريبًا لم أجد إلا واحدًا منهم. أملي الوحيد أن تنتهي هذه الحرب اللعينة وأن تعود حياتي مثلما كانت لا أكثر ولا أقل.. وأن تعوضنا الحياة خيرًا عمن فقدنا وأن تعود غزة كما كنا نراها جميلة آمنة مطمئنة، فهل سيحدث ذلك؟