بنفسج

المحررتان بنان وإباء الشريدة: شقيقتان تعلق قلبيهما بالأقصى

الجمعة 16 اغسطس

في كل مقام، وفي كل مقالة، أو تقرير، أو حوار، أو مقابلة وتحقيق، نلقي الضوء على الأسيرات الفلسطينيات، سواء داخل المعتقل أو خارجه، ونحاول سماع الروايات وتدوينها كما جاءت على لسان صاحباتها. وفي هذا الحوار التقينا بالأسيرتين الأختين إباء وبنان اشريدة من مدينة نابلس.بنان اشريدة، طالبة صيدلة، 24 عامًا، وإباء اشريدة، طالبة هندسة حاسوب 22 عامًا، تدرسان في  جامعة القدس.

كاميرات ترصد كل من يدخل ويخرج إلى القدس

الأختان بنان وإباء الشريدة.jpg

عن سؤال الأختين عن ظروف اعتقالهما، قالتا: "اعتقالنا في تاريخ 4 نيسان/ أبريل 2024، بنان اعتقلت من  أبواب المسجد الأقصى، أما إباء فقد دخلت قوة خاصة إلى داخل الأقصى لإلقاء القبض عليها. القبضة الأمنية كانت خانقة على المسجد الأقصى، فما إن اكتشف جنود الاحتلال بأن بنان لا تحمل تصريحَ دخول إلى الأراضي المحتلة، أُخبر بقية الجنود بأن فتاة أخرى كانت برفقتها عند دخول البلدة القديمة، ما يعني بأن إحدى القوات مكلفة بمراقبة الكاميرات ورصد جميع الداخلين والخارجين وهذا ما لاحظناه عند اقتيادنا إلى مركز القشلة؛ ألقي القبض على عدد من الشباب الذين دخلوا من دون تصاريح. اقتادونا إلى مركز القشلة للتحقيق، ثم نقلنا إلى سجن هشارون، ومكثنا قرابة 4 أيام، ثم نقلنا إلى الدامون سجن النساء المركزي".

ماذا عن قصتكما مع الأقصى، ولماذا هذه العلاقة رغم أنكما من نابلس؟ تجيب الفتاتان: "حب الأقصى متجذر فينا بشكل فطري، والاعتكاف غدا متطلبًا رمضانيًا لا ننفك عنه مهما كانت الظروف، وهذا الحب ورثناه عن والدي: "القدس تجمعنا إذا عز اللقاء"، هذا ما كان مطبوعًا على جكيتات الاعتكاف التي نرتدي بالعادة، ولطالما كان الاعتكاف والأقصى فرصة لمّ الجسم الفلسطيني وهويته، فالقدس هي قبلة الأحرار والأم الجامعة، ولم نتخيل في يوم من الأيام أن تجمعنا القدس أيضًا مع أسيرات الوطن السليب، وأن زيارة الأقصى ستنتهي بأن نكون على سفوح الكرمل وفي قلب حيفا وهذه الصورة هي اللي كانت تنتشر لإعلانات غرف الزوم اللي يدعولنا فيها صاحباتنا".
  
 الأختان رقيقتان لطيفتان، تعرفان بابتسامتهما وأخلاقهما وحب الناس لهما، فكيف كان الاعتقال والتحقيق وأساليبه من تأثير عليهما، تجيبان: "أقسى شيء على إنسان حر بعبوديته لله أن تقيد حريته ويحجم تأثيره والتحكم بتفاصيل يومه، والتعامل مع وقته على أنه ملك السجان.

"حب الأقصى متجذر فينا بشكل فطري، والاعتكاف غدا متطلبًا رمضانيًا لا ننفك عنه مهما كانت الظروف، وهذا الحب ورثناه عن والدي كانت أصعب لحظة وضع الأغلال لأول مرة بثقلها المعنوي إلى جانب ثقلها المادي. التحقيق كان قاسيًا، كله شتائم وتهديد، سواء بعائلتنا أو مستقبلنا الجامعي أو العملي، إنه خربنا حياتكم ورح نضل سنوات في السجن والتهمة هي الدخول إلى ما يسمى بحدود دولة إسرائيل بدون تصريح".

 

"نزلنا تحقيق عدة مرات، فمكثنا في زنازين التحقيق الموحشة والقاسية واللي ظروفها ثقيلة عالنفس. شُبحنا بوقوفنا ساعات طويلة وممنوع الراحة فيها، تارة بالشبح وربط أيدينا إلى الخلف مع إحكام الأغلال عليها. عند اعتقالنا، جاء محام، وتكلمنا معه بشكل وجاهي في مركز تحقيق القشلة وطوال فترة التحقيق والاعتقال ما تكلمنا مع أهلنا ولا مرة".

في إحدى المرات التي نزلنا فيها تحقيق، استمرت المحققة بسؤال إباء عن اسم الجامعة التي تدرس بها وهي  جامعة القدس، قالت المحققة: "تقصدين الجامعة العبرية؟ تجيب إباء: لا، أدرس في جامعة القدس. بقيت تكرر السؤال عليها لمدة ربع ساعة وتخبرها من أنه لا يوجد جامعة اسمها جامعة القدس جامعتك اسمها جامعة أبوديس!".

سألنا الأختين عن ظروف المعتقل وبمن التقين وعن حال الأسيرات، فقلن: "الأسيرات اللواتي جئن وظهرت عليهن علامات التعب والتعذيب والظروف القاسية وحصوصًا أسيرات غزة. وفي مرة تعاملوا بوحشية مع أسيرة من ذوي الحالات النفسية عندما طلبت تمديد فورتها وعدم إدخالها إلى غرفتها؛ اعتدوا عليها وأجبروها على الدخول إلى غرفتها بالقوة. ومرة أخرى تم الاعتداء على أسيرة أخرى من ذوي الحالات النفسية بغاز الفلفل، الأمر الذي أثر على الأسيرات في غرفتها وعلى الغرف المجاورة من تبعات غاز الفلفل.

ومن الأمور القاسية علينا أيضًا أن تم تفريقنا أنا وأختي كل واحدة في غرفة منفصلة، ورفض المخابرات وجودنا في نفس الغرفة، هذه اللحظة كانت قاسية، لأننا لا ننفصل عادة في الحياة العادية، نحن لا نفترق إلا ما ندر، حتى الاعتقال  هونه وجودنا معًا وكان من الصعب علينا أن تخوض هذه التجربة، إحدانا تنفصل، وتبقى الأخرى قلقة عليها، وتغيب عن تفاصيل الأخرى ووجودها في العالم المقطوع، عالم الأسر.

فكان ولله الحمد، ما هون التجربة هو وجودنا معًا سندًا وأنسًا بعناية الله عز وجل، فعندما تم تفريقنا ما كان من بنان إلا أن بعثت لإباء قطعة من المحارم مكتوب عليها "باسم الله نبدأ صناعتنا على عين المولى في مدرسة الصديق يوسف اللهم رضّنا واجعلنا من أهل الرضى". كنا نقف على أبواب غرفنا ونفقد بعض بالمناداة على بعضنا بصوت عالٍ، أو في الليل باغلاق أنوار غرفنا بشكل متتالٍ كون غرفنا موجودتان مقابل بعضهما.

سياسات عقابية: تفريق الأختين

الأسيرات الفلسطينيات في سجن الدامون.jpg

كان من الأمور التي حظينا بها داخل الأسر التعرف على صفوة من النساء الرياديات والمنتجات نظرًا لوجود جميع الأسيرات في قسم واحد في سجن الدامون بقسم 3 فتعرفنا على كل الأسيرات من الجسم الفلسطيني كاملًا من النقب وغزة حتى عرعرة
 
وعن الأسيرات اللاتي التقت بهما الأختين في المعتقلات، يحكين: "من أبرز الأسماء التي التقينا بها وكان لهم أثر على القسم ككل: آية الخطيب وأم عاصف وفادية البرغوثي وشاتيلا باعتبارها من أقدم الأسيرات الموجودات حالياً، التقين بأسيرات من كل الأعمار..
في غرفة بنان كان معها: أخت الشهيد صالح العاروري، أخت إسماعيل هنية، ياسمين أبو سرور، ليندا جعارة، أسماء هريش، أسيل شحادة، وفي فترة من الفترات ديالا عايش.. أما بالنسبة لإباء، فكانت غرفتها هي "غرفة المعلمات" بحسب وصف بنان، كانت معها الدكتورة زهرة خدرج وبدرية وسجى معدي وأم عدي".

وعن الطعام والشراب والمنامة وظروف الأقسام تقول الأختان: "بالنسبة للأكل قبل 7 أكتوبر كانت الأسيرات يعددن الطعام بأنفسهن، أما بعد 7 أكتوبر كان كل الأكل هو أكل مصلحة السجون، الكميات جدًا جدًا قليلة، وكان الأكل رديء الجودة، وأغلبه بقوليات عمدًا، ما أدى للعديد من المشاكل عند الأسيرات كسوء الهضم وأوجاع في المعدة وانتفاخ وغيره.. كان عدد الوجبات 3 وجبات، لكن بكميات ضئيلة، بحيث لو تم جمع ال3 وجبات تكون بقدر وجبة واحدة. الماء سيئ للغاية، الشرب من مياه الحنفية "صفرة بطبيعة الحال" و الأصل أنها لا تشرب، لكنك كأسيرة ترغمي نفسك ما تشوفيها ولا حتى تشمي ريحتها، وبتشربي عشان تكملي وتعيشي..

عدد الأبراش - الأسرة- نصف عدد الأسيرات، فمثلًا غرفة بنان كان فيها 5 أبراش بوجود 10 أسيرات.. وعدد الأسيرات اللواتي يفترشن الأرض كبير، وهذا يتسبب بأوجاع في الظهر لدى الأسيرات، وبحسب شهادات الأسيرات التي وصلتنا فإنه تم مصادرة كمية كبيرة من الأغطية من قسم الأسيرات، وذلك بعد أن قمن الأسيرات بفرش الأرض بعدد من هذه الأغطية لتخفيف حدة برودة الجو، وقيل للأسيرات بأنكن مرفهات هكذا وصودرت كل الأغطية، بحيث يبقى لكل أسيرة غطاء واحد.

بالنسبة للعلاج فهو رديء للغاية. وأعظم علاج عندهم لكل الأمراض هو حبة مسكن واحدة، وشهدت بنان حالة أسيرة في غرفتها عندما أغمي عليها وغابت عن الوعي، لأنها تعانى من أمراض القولون ومن رداءة الأكل وقلة الملح حصل عندها هبوط حاد بالضغط، وبقيت حوالي 3 ساعات قبل أن تأتي مصلحة السجون لمعاينة الحالة، وكانت الأسيرات قد قمن بإفاقتها لوحدهن، وفي حينها رفضت الأسيرة الخروج إلى العيادة".

إباء وبنان شريدة.jpg

وقالت بنان أنه يوجد عدد من الأسيرات يعانين من السرطان، وحالات أخرى تعاني من نقص الحديد، وغيرهن ممن يعانين من أوجاع الظهر والديسك، وعدد من المصابات والجريحات.. مثلا الأسيرة شيماء الرواجبة وصلت اللقسم وقدمها مكسورة، ولم يتم التعامل معها أبدا وكسر الجبص الذي يغطي قدمها المكسورة أثناء الاعتقال، وما تم تصليحه..

بالنسبة إلى المستلزمات الشخصية؛ فالأسيرات السابقات كن قد حافظن على كمية ممتازة منها، ولكن بعد أشهر مثلاً نفذت كمية الفوط الصحية، ومن ثم أحضروا فوطًا صحية من عند الشاباص وهي ذات جودة رديئة، وتتسبب بالتهابات وأمراض للأسيرات.

وعن سؤالنا عن حال الأسيرت في الحرب نفسيًا وذهنيًا، قالت بنان: "الأسيرات يقتتن على الأمل،يعشن على الأمل بأن يكون هناك صفقة قريبة وهدنة وتهدئة وبرغم كل هذا الظلم الذي يعانين منه، فإن همهن وأولويتهن هم أهل غزة، فالصفقة التي يرضى عنها أهل غزة وتكف دماؤهم، الأسيرات راضيات بها مهما كان الثمن ولو كان على حساب حريتهن، وهن على يقين بأن الله عز وجل معهن، ومصلحة أهل غزة تقدم دائما على مصلحة الأسرى والأسيرات".

من بداية وجود أسيرات والحركة الأسيرة، لم يكن من قبل وجود لهذه النخب من النساء بهذه الكثافة داخل السجون، فبحمد الله تستغل الأسيرات أوقاتهن بشكل ممتاز في حفظ القرآن وصلاة الجماعة والدعاء الجماعي. هناك فقرة يومية لدى الأسيرات خاصة بالدعاء،بحيث يخرج يوميا من كل غرفة أسيرة عند الباب، ويقمن بالدعاء لفلسطين وأهل غزة والمكلومين..تحاول الأسيرات الحفاظ على الكتب الموجودة، خاصة مما سلم من قمعات المحتل ويتناوبن على القراءة. ويُقمن حلقات نقاش وحديث مثمر في موضوعات وطنية دينية اجتماعية، أفكار وغيرها..

غالبية الوقت يكون في أحاديثهن ونقاشاتهن عن تجاربهن في الحياة وعن الاعتقال وتجربته؛ فجميع الأسيرات اللواتي تم اعتقالهن بعد الصفقة الأخيرة شهاداتهن مبكية ومؤلمة عن ظروف الاعتقال. التفاصيل تشيب الرأس وتحزن؛ فمنهن من عانى من ظروف تحقيق قاسية،وبقين في زنازين التحقيق لأكثر من شهر في البرد القارص، الأكل لا يتجاوز قطعة شوكلاطة! بدون أغطية وأحيانا بدون ملابسهن حتى!

ومن قصص رمضان، أن بعض الأسيرات ممن كن في التحقيق خلال الشهر الفضيل، قد تعمد الاحتلال عدم إعلامهن بالأوقات، فمنهن من لم تعرف بحلول الشهر، ومنهن من لا تعرف متى يحين موعد الإمساك والأفطار.. كما وتعرض بعضهن لتحقيق عبر جاهز فحص الكذب، بظروف مؤلمة وصعبة، ودخل عدد من الأسيرات بحالة نفسية صعبة جراء فترة التحقيق فقط، لكن لطف الله ووجودهن بين الأسيرات الأخريات ساعدهن من التجاوز".

لحظة الإفراج: ولادة ثانية 

الدامون السجن المركزي للأسيرات الفلسطينيات.jpg

تسهب بنان في قولها: "إن الله يلقي مع البلاء الصبر، كان الشعور أننا جزء من المعادلة، وهذا شيء حتمي بوجود الاحتلال، فمؤكد أنه سيدفع ضريبة تمسكه بوطنه وأقصاه.. كان في لحظات كان ممكن يتخلل لأنفسنا شهور الإهانة، لكن سرعان ما نتذكر أننا عزيزين بعز الإسلام، ولحظات الضعف كانت قليلة مقارنة بغالبية الوقت، بأن لا أحد يمكنه التمكن من صبرنا وعزيمتنا وثباتنا واعتزازنا".

أما عن لحظة الخروج إلى النور ووصفها يقلن: "لحظة الإفراج هي لحظة الولادة الثانية التي يدرك الإنسان فيها قيمة النعم التي كان يملكها، ولم يدرك ذلك إلا بعد أن سلبت منه، فكرة المشي بقدميك بدون أغلال، وفكرة عد وجود أغلال في اليدين، وعدم وجود رباط على عيونك، رؤية السماء بدون شبك، هذه جميعها ولادة ثانية وجديدة..

وبفضل الله التفاف الناس من حولنا، توقير وتقدير واحترام من الجميع، والحمد لله كان عدد المهنئين بالإفراج يفوق التوقعات والتصورات، كان توقعنا إنه ممكن الناس تخاف، لكن الحمد لله المجتمع ما زال يقدر الأسير، وما زال يقوي الأسير ويكسبه الشرعية بأنه لم يخطئ ولم يقبل على فعل خاطئ، بل أن الظلم هو سلب حريته، فالحمد نظرة المجتمع جدًا جدًا إيجابية.
والأهم إدراكنا وإدراك المجتمع إنه إحنا لسنا أفضل من أهل غزة، ونقاسمهم دفع ضريبة وجودنا على هذه الأرض".